
الآية مرة إلى مفعولين ومرة إلى مفعول واحد، لأن ذلك يجوز في أنبأ ونبأ إذا كان دخولها على غير الابتداء والخبر، فمتى دخلت على الجملة تعدت إلى ثلاثة مفاعيل، ولا يجوز الاقتصار. وقوله تعالى: وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي أطلعه، وقرأ الكسائي وحده وأبو عبد الرحمن وطلحة وأبو عمرو بخلاف والحسن وقتادة:
«عرف» بتخفيف الراء، وقرأ الباقون وجمهور الناس: «عرّف» بشدها، والمعنى في اللفظة مع التخفيف جازى بالعتب واللوم، كما تقول لإنسان يؤذيك: قد عرفت لك هذا ولأعرفن لك هذا بمعنى لأجازينك عليه، ونحوه في المعنى قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء: ٦٣]، فعلم الله زعيم بمجازاتهم، وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى مع الشد في الراء علم به وأنب عليه، وقوله تعالى: وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي تكرما وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وروي أن رسول الله ﷺ طلق حينئذ حفصة، ثم إن الله تعالى أمره بمراجعتها، وروي أنه عاتبها ولم يطلقها، فلما أخبر رسول الله ﷺ حفصة بالخبر، وأنها أفشته إلى عائشة، ظنت أن عائشة فضحتها، فقالت: من أنبأك هذا؟ على جهة التثبت، فلما أخبرها أن الله تعالى أخبره، سكتت وسلمت.
قوله عز وجل:
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٤ الى ٥]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥)
المخاطبة بقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا هي لحفصة وعائشة، وفي حديث البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب: من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال حفصة وعائشة، وقوله تعالى: صَغَتْ قُلُوبُكُما معناه مالت أي عن المعدلة والصواب، والصغا: الميل، ومنه صياغة الرجل وهم حواشيه الذين يميلون إليه، ومنه أصغى إليه بسمعه، وأصغى الإناء، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «فقد زاغت قلوبكما»، والزيغ الميل وعرفه في خلاف الحق، قال مجاهد: كما نرى صغت شيئا هينا حتى سمعنا قراءة ابن مسعود: «زاغت»، وجمع القلوب من حيث الإنسان جمع ومن حيث لا لبس في اللفظ، وهذا نظير قول الشاعر [حطام المجاشعي] :[الرجز] ظهراهما مثل ظهور الترسين ومعنى الآية، إن تبتما فقد كان منكما ما ينبغي أن يتاب منه، وهذا الجواب الذي للشرط هو متقدم في المعنى، وإنما ترتب جوابا في اللفظ، وَإِنْ تَظاهَرا معناه: تتعاونا، وقرأ جمهور الناس والسبعة «تظاهرا» وأصله تتظاهرا، فأدغمت التاء في الظاء بعد البدل، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس: «إن تتظاهرا» بتاءين على الأصل، وقرأ نافع بخلاف عنه وعاصم وطلحة وأبو رجاء والحسن: «تظهرا» بتخفيف الظاء على

حذف التاء الواحدة، وروي عن ابن عمر أنه قرأ: «تظّهّرا» بشد الظاء والهاء دون ألف، والمولى: الناصر المعين، وقوله وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون عطفا على اسم الله تعالى في قوله: هُوَ، فيكون جِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ في الولاية، ويحتمل أن يكون جِبْرِيلُ رفعا بالابتداء، وما بعده عطف عليه، وظَهِيرٌ الخبر فيكون حينئذ من الظهراء لا في الولاية ويختص بأنه مولى الله تعالى، واختلف الناس في صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، فقال الطبري وغيره من العلماء: ذلك على العموم، ويدخل في ذلك كل صالح، وقال الضحاك وابن جبير وعكرمة: المراد أبو بكر وعمر. ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد نحوه، وقال أيضا: وعلي، وروى علي عن النبي ﷺ أنه قال: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، علي بن أبي طالب ذكره الثعلبي. وقال قتادة والعلاء بن زياد وغيره: هم الأنبياء، وإنما يترتب ذلك بأن تكون مظاهرتهم أنهم قدوة وأسوة فهم عون بهذا، وقوله تعالى: وَصالِحُ يحتمل أن يكون اسم جنس مفردا، ويحتمل أن يريد «وصالحو» فحذفت الواو في خط المصحف، كما حذفوها في قوله: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨] وغير ذلك. ويروى عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لا تكترث بأمر نسائك والله معك وجبريل معك وأبو بكر معك، وأنا معك. فنزلت الآية موافقة نحو أمر قول عمر، قال المهدوي: وهذه الآية نزلت على لسان عمر، وكذا روي أن عمر بن الخطاب قال لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ. فنزلت الآية على نحو قوله، وقال عمر رضي الله عنه: قالت لي أم سلمة: يا ابن الخطاب، أدخلت نفسك في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله وبين نسائه، فأخذتني أخذا كسرتني به، وقالت لي زينب بنت جحش: يا عمر، أما يقدر رسول الله ﷺ أن يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، وقرأ الجمهور: «طلقكن» بفتح القاف وإظهاره، وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه:
«طلقكّن» بشد الكاف وإدغام القاف فيها، وقال أبو علي: وإدغام القاف في الكاف حسن، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون والحسن وأبو رجاء وابن محيصن: «أن يبدله» بسكون الباء وتخفيف الدال، وقرأ نافع والأعرج وأبو جعفر: «أن يبدّله» بفتح الباء وشد الدال، وهذه لغة القرآن في هذا الفعل، وكرر الله تعالى الصفات مبالغة، وإن كان بعضها يتضمن بعضا، فالإسلام إشارة إلى التصديق، والعمل والإيمان:
تخصيص للإخلاص وتنبيه على شرف موقعه، وقانِتاتٍ معناه: مطيعات، والسائحات قيل معناه:
صائمات، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك. وذكر الزجاج أن النبي ﷺ قاله، وقيل معناه هاجرات قاله زيد بن أسلم، وقال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة، وقيل: معناه ذاهبات في طاعة الله، وشبه الصائم بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زاد ولا مطعم، وكذلك الصائم يمسك عن ذلك فيستوي هو والسائح في الامتناع وشظف العيش لفقد الطعام، وقوله تعالى:
ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً تقسيم لكل واحدة من الصفات المتقدمة، وليست هذه الواو مما يمكن أن يقال فيها:
واو الثمانية لأنها هنا ضرورية، ولو سقطت لاختل هذا المعنى.
قوله عز وجل: