سورة التّحريم
ويقال لها: سورة المتحرم وسورة لم تحرم وسورة النبي صلّى الله عليه وسلم، عن ابن الزبير- سورة النساء- والمشهور أنها مدنية، وعن قتادة أن المدني منها إلى رأس العشر، والباقي مكي، وآيها اثنتا عشرة آية بالاتفاق، وهي متوخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإماء، وبينهما من الملابسة ما لا يخفى، ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى صلّى الله تعالى عليه وسلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة فأفردن بسورة خاصة ولذا ختمت بذكر زوجيه صلّى الله تعالى عليه وسلم في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
روى البخاري وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة «أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود»
وفي رواية
«وقد حفلت فلا تخبري بذلك أحدا» فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
إلخ،
وفي رواية «قالت سودة: أكلت مغافير؟
قال: لا قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، فقالت: جرست نحلة العرفط» فحرم العسل فنزلت
، وفي حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة شرب العسل في بيت حفصة، والقائلة سودة وصفية.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال الحافظ السيوطي: بسند صحيح عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت:
إني أجد منك ريحا فدخل على حفصة فقالت: إني أجد منك ريحا فقال: أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه» فنزلت
وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
إلخ، ويوافقه ما أخرجه البراز، والطبراني بسند حسن صحيح عن ابن عباس قال: نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ الآية في سريته.
والمشهور أنها مارية
وأنه عليه الصلاة والسلام وطئها في بيت حفصة في يومها فوجدت وعاتبته فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى فحرمها
، وفي رواية أن ذلك كان في بيت حفصة في يوم عائشة،
وفي الكشاف روي أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها: اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت عائشة وكانتا متصادقتين.
وبالجملة الأخبار متعارضة، وقد سمعت ما قيل فيها لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح ثم قال الخفاجي نقلا عنه أيضا: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها، وقال الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف: ما وجدته في الكتب المشهورة والله تعالى أعلم.
والمغافير: بفتح الميم والغين المعجمة وبياء بعد الفاء- على ما صوبه القاضي عياض- جمع مغفور بضم الميم شيء له رائحة كريهة ينضحه العرفط وهو شجر أو نبات له ورق عريض، وعن المطلع أن العرفط هو الصمغ، والمغفور شوك له نور يأكل منه النخل يظهر العرفط عليه، وكان صلّى الله تعالى عليه وسلم يحب الطيب جدا ويكره الرائحة الكريهة للطافة نفسه الشريفة ولأن الملك يأتيه وهو يكرهها فشق عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما قيل فجرى ما جرى، وفي ندائه صلّى الله تعالى عليه وسلم- بيا أيها النبي- في مفتتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] والمراد بالتحريم الامتناع. وبما أحل الله العسل على ما صححه النووي رحمه الله تعالى، أو وطء سريته على ما في بعض الروايات، ووجه التعبير- بما- على هذين التفسيرين ظاهر.
وفسر بعضهم ما بمارية والتعبير عنها- بما- على ما هو الشائع في التعبير بها عن ملك اليمين، والنكتة فيه لا تخفى، وقوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ حال من فاعل تُحَرِّمُ، واختاره أبو حيان فيكون هو محل العتاب على ما قيل، وكأن وجهه أن الكلام الذي فيه قيد المقصود فيه القيد إثباتا أو نفيا، أو يكون التقييد على نحو «أضعافا مضاعفة» على أن التحريم في نفسه محل عتب والباعث عليه كذلك كما في الكشف، أو استئناف
نحوي أو بياني، وهو الأولى، ووجهه أن الاستفهام ليس على الحقيقة بل هو معاتبة على أن التحريم لم يكن عن باعث مرضي فاتجه أن يسأل ما ينكر منه وقد فعله غيري من الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: ٩٣] فقيل: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ومثلك من أجل أن تطلب مرضاتهن بمثل ذلك، وجوز أن يكون تفسيرا- لتحرم- بجعل ابتغاء مرضاتهن عين التحريم مبالغة في كونه سببا له، وفيه من تفخيم الأمر ما فيه، والإضافة في أَزْواجِكَ للجنس لا للاستغراق.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه تعظيم لشأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأن عتابه صلّى الله تعالى عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به، وقد زل الزمخشري هاهنا كعادته فزعم أن ما وقع من تحريم الحلال المحظور لكنه غفر له عليه الصلاة والسلام، وقد شن ابن المنير في الانتصاف الغارة في التشنيع عليه فقال ما حاصله: إن ما أطلقه في حقه صلّى الله تعالى عليه وسلم تقول وافتراء والنبي عليه الصلاة والسلام منه براء، وذلك أن تحريم الحلال على وجهين: الأول اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره من المعصوم أصلا، والثاني الامتناع من الحلال مطلقا أو مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله وهذا مباح صرف وحلال محض، ولو كان ترك المباح والامتناع منه غير مباح لاستحالت حقيقة الحلال، وما وقع منه صلّى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا النوع وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقا به وتنويها بقدره وإجلالا لمنصبه عليه الصلاة والسلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله تعالى به، وتأول بعضهم كلام الزمخشري، وفيه ما ينبو عن ذلك.
وقيل: نسبة التحريم إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم مجاز، والمراد لم تكون سببا لتحريم الله تعالى عليك ما أحل لك بحلفك على تركه وهذا لا يحتاج إليه، وفي وقوع الحلف خلاف، ومن قال به احتج ببعض الاخبار، وبظاهر قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة، فالتحلة مصدر حلل كتكرمة من كرم، وليس مصدرا مقيسا، والمقيس التحليل والتكريم لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل، وأصله تحللة فأدغم، وهو من الحل ضد العقد فكأنه باليمين على الشيء لالتزامه عقد عليه وبالكفارة يحل ذلك، ويحل أيضا بتصديق اليمين كما في
قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم»
يعني وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] إلخ، وتحليله بأقل ما يقع عليه الاسم كمن حلف أن ينزل يكفي فيه إلمام خفيف، فالكلام كناية عن التقليل أي قدر الاجتياز اليسير، وكذا يحل بالاستثناء أي بقول الحالف: إن شاء الله تعالى بشرطه المعروف في الفقه.
ويفهم من كلام الكشاف أن التحليل يكون بمعنى الاستثناء ومعناه كما في الكشف تعقيب اليمين عند الإطلاق بالاستثناء حتى لا تنعقد، ومنه حلا أبيت اللعن، وعلى القول بأنه كان منه عليه الصلاة والسلام يمين كما جاء في بعض الروايات وهو ظاهر الآية اختلف هل أعطى صلّى الله تعالى عليه وسلم الكفارة أم لا؟ فعن الحسن أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين، وفيه أن غفران الذنب لا يصلح دليلا لأن ترتب الأحكام الدنيوية على فعله عليه الصلاة والسلام ليس من المؤاخذة على الذنب كيف وغير مسلم أنه ذنب، وعن مقاتل أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية، وقد نقل مالك في المدونة عن زيد بن أسلم أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الكفارة في تحريمه أم ولده حيث حلف أن لا يقربها، ومثله عن الشعبي، واختلف العلماء في حكم قول الرجل لزوجته: أنت عليّ حرام أو الحلال عليّ حرام ولم يستثن زوجته فقيل: قال
جماعة منهم مسروق وربيعة وأبو سلمة والشعبي وأصبغ: هو كتحريم الماء والطعام لا يلزمه شيء، وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والاوزاعي وأبو ثور وجماعة: هو يمين يكفرها، وابن عباس أيضا في رواية، والشافعي في قول في أحد قوليه: فيه تكفير يمين وليس بيمين، وأبو حنيفة يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاما فقد حلف على عدم أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم تكن له نية فإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وكذلك إن نوى اثنتين (١) وإن نوى ثلاثا فكما نوى، وإن قال: نويت الكذب دين بينه وبين الله تعالى، ولكن لا يدين في قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف، وقال جماعة: إن لم يرد شيئا فهو يمين، وفي التحرير قال أبو حنيفة وأصحابه: إن نوى الطلاق فواحدة بائنة أو اثنتين فواحدة أو ثلاثا فثلاث. أو لم ينو شيئا فمول. أو الظهار فظهار، وقال ابن القاسم: لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقا، وقال يحيى بن عمر: يكون كذلك فإن ارتجعها فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار، ويقع ما أراد من إعداده فإن نوى واحدة فرجعية وهو قول للشافعي، وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور: أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئا فقال سفيان: لا شيء عليه، وقال الاوزاعي وأبو ثور: تقع واحدة، وقال ابن جبير: عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهارا، وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق: التحريم ظهار ففيه كفارته، وعن الشافعي إن نوى أنها محرمة كظهر أمه فظهار، أو تحريم عينها بغير طلاق، أو لم ينو فكفارة يمين، وقال مالك: يقع ثلاث في المدخول بها وما أراد من واحدة أو ثنتين. أو ثلاث في غير المدخول بها، وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك ابن الماجشون: تقع ثلاث في الوجهين، وروى ابن خويزمنداد عن مالك، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان: تقع واحدة بائنة فيهما، وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون: واحدة رجعية، وقال أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم: يقع في التي لم يدخل بها واحدة وفي المدخول بها ثلاث، وفي الكشاف لا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن، وأما الطلاق فرجعي عنده، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ثلاث، وعن زيد واحدة بائنة، وعن عثمان ظهار، وأخرج البخاري ومسلم وابن ماجة والنسائي عن ابن عباس أنه قال: من حرم امرأته فليس بشيء.
وقرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: ٢١] وللنسائي أنه أتاه رجل فقال: جعلت امرأتي عليّ حراما قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة إلى غير ذلك من الأقوال، وهي في هذه المسألة كثيرة جدا، وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضا، واحتج بما في هذه الآية من فرض تحليلها بالكفارة إن لم يستثن من رأى التحريم مطلقا، أو تحريم المرأة يمينا لأنه لو لم يكن يمينا لم يوجب الله تعالى فيه كفارة اليمين هنا.
وأجيب بأنه لا يلزم من وجوب الكفارة كونه يمينا لجواز اشتراك الأمرين المتغايرين في حكم واحد فيجوز أن تثبت الكفارة فيه لمعنى آخر، ولو سلم أن هذه الكفارة لا تكون إلا مع اليمين فيجوز أن يكون صلّى الله تعالى عليه وسلم أقسم مع التحريم فقال في مارية: «والله لا أطؤها» أو في العسل «والله لا أشربه» وقد رواه بعضهم فالكفارة لذلك اليمين لا للتحريم وحده، والله تعالى أعلم.
وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ سيدكم ومتولي أموركم وَهُوَ الْعَلِيمُ فيعلم ما يصلحكم فيشرعه سبحانه لكم الْحَكِيمُ المتقن أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة وَإِذْ أَسَرَّ أي واذكر إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ هي حفصة على ما عليه عامة المفسرين، وزعم بعض الشيعة أنها عائشة وليس له في ذلك شيعة، نعم رواه ابن مردويه عن ابن عباس وهو شاذ حَدِيثاً هو
قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: «لكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا»
فَلَمَّا نَبَّأَتْ أي أخبرت.
وقرأ طلحة- أنبأت- بِهِ أي بالحديث عائشة لأنهما كانتا متصادقتين، وتضمن الحديث نقصان حظ ضرتهما زينب من حبيبهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث إنه عليه الصلاة والسلام- كما في البخاري وغيره- كان يمكث عندها لشرب ذلك وقد اتخذ ذلك عادة- كما يشعر به لفظ- كان فاستخفها السرور فنبأت بذلك وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي جعل الله تعالى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهرا على الحديث مطلعا عليه من قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: ٣٣، الفتح: ٢٨، الصف: ٩] والكلام على ما قيل: على التجوز، أو تقدير مضاف أي على إفشائه، وجوز كون الضمير لمصدر نَبَّأَتْ وفيه تفكيك الضمائر، أو جعل الله تعالى الحديث ظاهرا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو نظير ظهر لي هذه المسألة وظهرت علي إذا كان فيه مزيد كلفة واهتمام بشأن الظاهر فلا تغفل عَرَّفَ أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حفصة بَعْضَهُ أي الحديث أي أعلمها وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته.
والمراد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها: قلت كذا لبعض ما أسره إليها قيل: هو
قوله لها: «كنت شربت عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود»
وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ هو على ما قيل
قوله عليه الصلاة والسلام: «وقد حلفت»
فلم يخبرها به تكرما لما فيه من مزيد خجلتها حيث إنه يفيد مزيد اهتمامه صلى الله تعالى عليه وسلم بمرضاة أزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك، وهذا من مزيد كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ما استقصى كريم قط،
وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الشاعر:
ليس الغبيّ بسيد في قومه | لكنّ سيد قومه المتغابي |
قال الأزهري في التهذيب: من قرأ «عرف» بالتخفيف أراد معنى غضب وجازى عليه كما تقول للرجل يسيء إليك: والله لأعرفن لك ذلك، واستحسنه الفراء، وقول القاموس: هو بمعنى الإقرار لا وجه له هاهنا، وجعل المشدد من باب إطلاق المسبب على السبب والمخفف بالعكس، ويجوز أن تكون العلاقة بين المجازاة والتعريف اللزوم، وأيد المعنى الأول بقوله تعالى: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ لتعرف هل فضحتها عائشة أم لا؟ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الذي لا تخفى عليه خافية فإنه أوفق للإعلام، وهذا على ما في البحر على معنى بهذا، وقرأ ابن المسيب وعكرمة- عراف بعضه- بألف بعد الراء وهي إشباع، وقال ابن خالويه: ويقال: إنها لغة يمانية. صفحة رقم 345
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن مجاهد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أسر إلى حفصة تحريم مارية وأن أبا بكر وعمر يليان الناس بعده فأسرت ذلك إلى عائشة فعرف بعضه وهو أمر مارية وأعرض عن بعض وهو أن أبا بكر وعمر يليان بعده مخافة أن يفشو، وقيل: بالعكس، وقد جاء إسرار أمر الخلافة في عدة أخبار
فقد أخرج ابن عدي وأبو نعيم في فضائل الصدّيق، وابن مردويه من طريق عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قالا: إن إمارة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال لحفصة: «أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدا».
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن الضحاك أنه قال: في الآية أسر صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حفصة أن الخليفة من بعده أبو بكر ومن بعد أبي بكر عمر، وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران نحوه، وفي مجمع البيان للطبرسي من أجل الشيعة عن الزجاج قال: لما حرم عليه الصلاة والسلام مارية القبطية أخبر أنه يملك من بعده أبو بكر وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض أن أبا بكر وعمر يملكان من بعدي، وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبهما في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك، وأعرض أن يعاتبهما في الأمر الآخر انتهى.
وإذا سلم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفى، ثم إن تفسير الآية على هذه الأخبار أظهر من تفسيرها على حديث العسل لكن حديثه أصح، والجمع بين الاخبار مما لا يكاد يتأتى.
وقصارى ما يمكن أن يقال: يحتمل أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد شرب عسلا عند زينب كما هو عادته، وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت فحرم العسل، واتفق له عليه الصلاة والسلام قبيل ذلك أو بعيده أن وطئ جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت فحرم صلى الله تعالى عليه وسلم مارية، وقال لحفصة ما قال تطييبا لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما.
والبعض الآخر على نقل الأخرى، وقال كل: فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إلخ، وهو كلام صادق إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله فإن صح هذا هان أمر الاختلاف وإلا فاطلب لك غيره، والله تعالى أعلم.
واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمه، وفيها على ما قيل: دلالة على أنه يحسن حسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإعراض عن استقصاء الذنب، وقد روي أن عبد الله بن رواحة- وكان من النقباء- كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة، فقال قولا بالتعريض، فقالت: إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن فأنشد:
شهدت فلم أكذب بأن محمدا | رسول الذي فوق السماوات من عل |
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما | له عمل في دينه متقبل |
وأن التي بالجزع من بطن نخلة | ومن دانها كل عن الخير معزل |
وفينا رسول الله يتلو كتابه | كما لاح معروف من الصبح ساطع |
أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا | به موقنات أن ما قال واقع |
ومن يك أمسى بالمدينة رحله | فإني وقيار بها لغريب |
٢١]- إلى غير ذلك، وذهب غير واحد إلى أن الإضافة للعهد فقيل: المراد به الأنبياء عليهم السلام.
وروي عن ابن زيد وقتادة والعلاء بن زياد، ومظاهرتهم له قيل: تضمن كلامهم ذم المتظاهرين على نبي من الأنبياء عليهم السلام وفيه من الخفاء ما فيه وقيل: علي كرم الله تعالى وجهه، وأخرجه ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس،
وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب
وروى الإمامية عن أبي جعفر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين نزلت أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه فقال: يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين.
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري أنه قال: هو عمر بن الخطاب، وأخرج هو وجماعة عن سعيد بن جبير قال: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ نزل في عمر بن الخطاب خاصة، وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان أنه قال:
وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم، وقيل: الخلفاء الأربعة.
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس قالا: نزلت وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ في أبي صفحة رقم 348
بكر وعمر، وذهب إلى تفسيره بهما عكرمة وميمون بن مهران وغيرهما،
وأخرج الحاكم عن أبي أمامة والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر
، وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أبي يقرؤها وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر، ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وإن جبريل عليه السلام ظهير له صلّى الله عليه وسلم يؤيده بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيرا في قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما.
وأنا أقول العموم أولى، وهما- وكذا علي كرم الله تعالى وجهه- يدخلان دخولا أوليا، والتنصيص على بعض في الأخبار المرفوعة إذا صحت لنكتة اقتضت ذلك لا لإرادة الحصر، ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك: من صالح المؤمنين أبو بكر وعمر
، وفائدة بَعْدَ ذلِكَ التنبيه على أن نصرة الملائكة عليهم السلام أقوى وجوه نصرته عز وجل وإن تنوعت، ثم لا خفاء في أن نصرة جميع الملائكة- وفيهم جبريل- أقوى من نصرة جبريل عليه السلام وحده.
وقيل: الإشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة فالتعظيم بالنسبة إليها، وفي التنبيه على هذا دفع توهم ما يوهمه الترتيب الذكري من أعظمية مظاهرة المتقدم، وبالجملة فائدة بَعْدَ ذلِكَ نحو فائدة- ثم- في قوله تعالى:
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وهو التفاوت الرتبي أي أعظمية رتبة ما بعدها بالنسبة إلى ما قبلها وهذا لا يتسنى على ما نقل عن البحر بل ذلك للإشارة إلى تبعية المذكورين في النصرة والإعانة عز وجل، وأيا ما كان فإن شرطية- وتظاهرا- فعل الشرط، والجملة المقرونة بالفاء دليل الجواب، وسبب أقيم مقامه، والأصل فإن تَظاهَرا عليه فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه، وجوز أن تكون هي بنفسها الجواب على أنها مجاز أو كناية عن ذلك، وأعظم جل جلاله شأن النصرة لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إما للإشارة إلى عظم مكر النساء أو للمبالغة في قطع حبال طمعهما لعظم مكانتهما عند رسول الله عليه الصلاة والسلام وعند المؤمنين ولأمومتهما لهم وكرامة له صلّى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما في أن تظاهرهما يجديهما نفعا.
وقيل: المراد المبالغة في توهين أمر تظاهرهما ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة والتبليغ وقهر أعداء الدين لما أن العادة قاضية باشتغال بال الرجل بسبب تظاهر أزواجه عليه، وفيه أيضا مزيد إغاظة للمنافقين وحسم لأطماعهم الفارغة فكأنه قيل: فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شؤونه على كل من يتصدى لما يكرهه وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ مظاهرون له ومعينون إياه كذلك، ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث لم يقل ظهير له عليكما مثلا، وكذا ترك ذكر المعان فيه وتخصيص- صالح المؤمنين- بالذكر، وتقوى هذه الملاءمة على ما روي عن ابن جبير من تفسير- صالح المؤمنين- بمن برىء من النفاق فتأمل.
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أي أن يعطيه عليه الصلاة والسلام بدلكن أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ والخطاب لجميع زوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم أمهات المؤمنين على سبيل الالتفات، وخوطبن لأنهن في مهبط الوحي وساحة العز والحضور، ويرشد إلى هذا ما أخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت هذه الآية وليس فيها
أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن مع أن المذهب على ما قيل: إنه ليس على وجه الأرض خير منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه، وجوز أن يكون الخطاب للجميع على التغليب، وأصل الخطاب لاثنتين منهن وهما المخاطبتان أولا بقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما إلخ فكأنه قيل: عسى ربه إن طلقكما وغيركما أن يبدله خيرا منكما ومن غيركما من الأزواج، والظاهر أن عدم دلالة الآية على أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا من أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم على حاله لأن التعليق على طلاق الاثنتين ولم يقع فلا يجب وقوع المعلق ولا ينافي تطليق واحدة، وقال الخفاجي والتغليب في خطاب الكل مع أن المخاطب أولا اثنتان، وفي لفظة إِنْ الشرطية أيضا الدالة على عدم وقوع الطلاق.
وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم طلق حفصة فغلب ما لم يقع من الطلاق على الواقع وعلى التعميم لا تغليب في الخطاب ولا في إِنْ انتهى، وفيه بحث، ثم إن المشهور أن عَسى في كلامه تعالى للوجوب، وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط، وقيل: هي كذلك إلا هنا، والشرط معترض بين اسم عَسى وخبرها.
والجواب محذوف أي إن طلقكن فعسى إلخ، وأَزْواجاً مفعول ثان- ليبدل- وخَيْراً صفته وكذا ما بعد، وقرأ أبو عمرو في رواية عياش «طلقكن» بإدغام القاف في الكاف.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير «يبدّله» بالتشديد للتكثير مُسْلِماتٍ مقرات مُؤْمِناتٍ مخلصات لأنه يعتبر في الإيمان تصديق القلب، وهو لا يكون إلا مخلصا، أو منقادات على أن الإسلام بمعناه اللغوي مصدقات قانِتاتٍ مصليات أو مواظبات على الطاعة مطلقا تائِباتٍ مقلعات عن الذنب عابِداتٍ متعبدات أو متذللات لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سائِحاتٍ صائمات كما قال ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والضحاك والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن، وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال الفراء: وسمي الصائم سائحا لان السائح لا زاد معه. وإنما يأكل من حيث يجد الطعام، وعن زيد بن أسلم ويمان مهاجرات، وقال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة، وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى أي مذهب.
وقرأ عمرو بن فائد «سيحات» ثَيِّباتٍ جمع ثيب من ثاب يثوب ثوبا، وزنه فيعل كسيد وهي التي تثوب أي ترجع عن الزوج أي بعد زوال عذرتها وَأَبْكاراً جمع بكر من بكر إذا خرج بكرة وهي أول النهار، وفيها معنى التقدم سميت بها التي لم تفتض اعتبارا بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء، وترك العطف في الصفات السابقة لأنها صفات تجتمع في شيء واحد وبينها شدة اتصال يقتضي ترك العطف ووسط العاطف هنا للدلالة على تغاير الصفتين وعدم اجتماعهما في ذات واحدة، ولم يؤت- بأو- قيل: ليكون المعنى أزواجا بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار، وقريب منه ما قيل: وسط العاطف بين الصفتين لأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار فتدبر، وفي الانتصاف لابن المنير ذكر لي الشيخ ابن الحاجب أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في الآية هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة، وكان الفاضل يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة قبله: أحدها في التوبة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله سبحانه: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: ١١٢]، والثاني في قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: ٢٢]، والثالث في قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] إلى أن ذكر ذلك يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقرئ فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل، وأحال على المعنى الذي ذكره الزمخشري من
دعاء الضرورة إلى الإتيان بها هاهنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد وواو الثمانية إن ثبتت فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها إلا الإشعار بتمام نهاية العدد الذي هو السبعة فأنصفه الفاضل واستحسن ذلك منه، وقال: أرشدتنا يا أبا الجود انتهى.
وذكر الجنسان لأن في أزواجه صلّى الله تعالى عليه وسلم من تزوجها ثيبا وفيهن من تزوجها بكرا، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج بكرا إلا عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت تفتخر بذلك على صواحباتها، وردت عليها الزهراء على أبيها وعليها الصلاة والسلام بتعليم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إياها حين افتخرت على أمها خديجة رضي الله تعالى عنها بقولها: إن أمي تزوج بها رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو بكر لم يره أحد من النساء غيرها ولا كذلك أنتن فسكتت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي نوعا من النار وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب، ووقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب،
وروي أن عمر قال حين نزلت: يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟
فقال عليه الصلاة والسلام: تنهوهن عما نهاكم الله عنه وتأمروهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار».
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم
، والمراد بالأهل على ما قيل: ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة.
واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بعض من أبيه،
وفي الحديث «رحم الله رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكنكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة»
، وقيل: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله.
وقرىء- وأهلوكم- بالواو وهو عطف على الضمير في قُوا وحسن العطف للفصل بالمفعول، والتقدير عند بعض وليق أهلوكم أنفسهم ولم يرتضه الزمخشري، وذكر ما حاصله أن الأصل قُوا أنتم وأهلوكم أنفسكم وأنفسهم بأن يقي ويحفظ كل منكم ومنهم نفسه عما يوبقها، فقدم أنفسكم، وجعل الضمير المضاف إليه الأنفس مشتملا على الأهلين تغليبا فشملهم الخطاب، وكذا اعتبر التغليب في قُوا، وفيه تقليل للحذف وإيثار العطف المفرد الذي هو الأصل والتغليب الذي نكتته الدلالة على الأصالة والتبعية.
وقرأ الحسن ومجاهد «وقودها» بضم الواو أي ذو وقودها، وتمام الكلام في هذه الآية يعلم مما مر في سورة البقرة عَلَيْها مَلائِكَةٌ أي أنهم موكلون عليها يلون أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية التسعة عشر قيل: وأعوانهم غِلاظٌ شِدادٌ غلاظ الأقوال شداد الأفعال، أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ صفة أخرى- لملائكة- وما في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي ما أمره تعالى كقوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: ٩٣] أو على إسقاط الجار أي لا يعصون فيما أمرهم به وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي الذي يأمرهم عز وجل به، والجملة الأولى لنفي المعاندة والاستكبار عنهم صلوات الله تعالى عليهم فيه كقوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف: ٢٠٦]، والثانية لإثبات الكياسة لهم ونفي الكسل عنهم فهي كقوله تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ إلى لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:
١٩، ٢٠]، وبعبارة أخرى إن الأولى لبيان القبول باطنا فإن العصيان أصله المنع والإباء، وعصيان الأمر صفة الباطن