ودلت الآية: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ.. أيضا على أنه ينبغي للإنسان مراعاة حال نفسه في النفقة والصدقة،
جاء في الحديث: «إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا، إذا هو سبحانه وسّع عليه وسّع، وإذا هو عز وجل قتّر عليه قتّر» «١».
وعيد المخالفين ووعد الطائعين والتذكير بقدرة الله
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٨ الى ١٢]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)
الإعراب:
الَّذِينَ آمَنُوا نعت للمنادى أو بيان له.
قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولًا رَسُولًا: منصوب بأحد خمسة أوجه: إما منصوب ب ذِكْراً على أنه مصدر، أي: أن اذكر رسولا، كانتصاب يَتِيماً في قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً [البلد ٩٠/ ١٤- ١٥] أي أن أطعم يتيما، أو منصوب بفعل مقدر، أي وأرسل رسولا، أو بتقدير: أعني، أو أن يكون بدلا من ذِكْراً ويكون رَسُولًا بمعنى رسالة، وهو بدل الشيء من الشيء نفسه، أو منصوب على الإغراء، بتقدير:
اتبعوا رسولا.
مُبَيِّناتٍ حال من اسم الله أو صفة رسولا. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ مبتدأ وخبر.
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ مِثْلَهُنَّ: إما منصوب بتقدير فعل أي: من الأرض خلق مثلهن، وليس منصوبا بفعل خَلَقَ المتقدم لئلا يقع الفصل بين واو العطف والمعطوف بالجار والمجرور. أو مرفوع بالظرف أو على الابتداء، أو الخبر مع خلاف فيه. لِتَعْلَمُوا اللام إما تتعلق ب يَتَنَزَّلُ أو تتعلق ب خَلَقَ.
البلاغة:
فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً، وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها تكرار الوعيد للترهيب.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل، أي أهل قرية، من إطلاق المحل وإرادة الحالّ.
لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة، استعار الظلمات للكفر والضلال، والنور للهدى والإيمان.
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً هذه الآيات فيما سبق من السورة سجع بديع غير متكلف.
المفردات اللغوية:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي وكثير من أهل قرية، وَكَأَيِّنْ: كاف الجرّ دخلت على «أي» بمعنى «كم». عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها عصت وأعرضت أو تجبرت وتكبرت، المراد عتى أهلها.
فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً بالاستقصاء والمناقشة، والحساب في الآخرة، وعبر عنها بالماضي وإن لم تجئ لتحقق وقوعها. عَذاباً نُكْراً عذابا منكرا عظيما وهو عذاب النار.
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها عاقبة عتوها وكفرها ومعاصيها. وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي خسارة وهلاكا، وهي خسارة لا ربح فيها أصلا. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً تكرار الوعيد للتوكيد. أُولِي الْأَلْبابِ أصحاب العقول. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً أي قرآنا. رَسُولًا أي وأرسل محمدا ﷺ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الذين آمنوا بعد إنزال الذكر ومجيء الرسول صلى الله عليه وسلم. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من الكفر والضلالة إلى الإيمان والهدى.
قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً هو رزق الجنة التي لا ينقطع نعيمها، وفيه تعجب وتعظيم لما رزقوا من الثواب. وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض، يعني سبع
أرضين. يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي يجري أمر الله وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمه فيهن.
لِتَعْلَمُوا متعلق بمضمر يعم كلّا من الخلق والتنزيل فإن كلّا منهما يدل على كمال قدرته وعلمه، فهو علة للأمرين.
المناسبة:
بعد بيان أحكام الطلاق والعدة وما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى، والنهي عن تجاوز حدود الله، أنذر الله تعالى وتوعد كل من خالف أمره وكذب رسله عليهم السلام، بعقاب مماثل لعقاب الأمم الخالية التي كفرت وكذبت رسلها، ثم أردف ذلك بالتذكير بعظيم قدرته وإحاطة علمه، للحث على التزام الأوامر والعمل بالشريعة والأحكام، فكانت الآيات تحذيرا من مخالفة الأمر بعد بيان الأحكام.
التفسير والبيان:
توعد الله تعالى كل من خالف أمره وكذّب رسله، وسلك غير ما شرعه، وأخبر عما حلّ بالأمم السالفة بسبب ذلك، فقال:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ، فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي وكثير من أهل القرى عصوا أمر الله ورسله، وأعرضوا وتكبروا وتمردوا عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله، حاسبها الله بأعمالها التي عملتها في الدنيا، وعذب أهلها عذابا عظيما منكرا في الآخرة، وفي الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف.
وعبّر بقوله: فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها بالماضي عن المستقبل في الآخرة للدلالة على التحقق والوقوع لوعيد الله، مثل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل ١٦/ ١]، وقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الزمر ٣٩/ ٦٨]، وقوله:
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الأعراف ٧/ ٤٤]، ونحو ذلك.
ثم أخبر عن سبب العذاب، فقال:
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها، وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي لقيت شدة أمرها وعقوبة كفرها، وكان مصيرها الخسران والهلاك والنكال في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فخسروا أنفسهم وأموالهم وأهلهم.
ثم أكّد الوعيد بقوله:
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً أي هيأ الله لهم عذابا شديد الوقع والألم لكفرهم وعتوهم وتمردهم، وهو عذاب النار.
ثم ذكر الله تعالى العبرة من الإنذار والوعيد وهي حث المؤمنين على التقوى، فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي فخافوا عقاب الله يا أصحاب العقول الراجحة، والأفهام المستقيمة، فلا تكونوا مثلهم، فيصيبكم مثلما أصابهم.
ثم أوضح لهم ما يذكّرهم بنحو دائم، فقال:
الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ، لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي فاتقوا الله يا أولي العقول من هذه الأمة الذين صدقوا بالله ورسله، وأسلموا الله، واتبعوا رسولهم محمدا صلى الله عليه وسلم، قد أنزل الله إليكم ذكرا دائما وهو القرآن العظيم، وأرسل إليكم رسولا بهذا القرآن، فهو الترجمان الصادق، وهو الذي يبلّغكم وحي الله، ويقرأ عليكم كلام الله وآياته في حال كونها بيّنة واضحة جلية، يبيّن فيها للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام، ليخرج الله بالآيات والرسول الذين آمنوا بالله ورسله، وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
ثم أكرمهم ورغّبهم ببيان جزاء الإيمان والعمل الصالح، فقال:
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً، يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً أي ومن يصدق بالله، ويعمل العمل الصالح، فيجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه، يدخله جنات، أي بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها أبدا على الدوام، وقد وسّع الله له رزقه في الجنة.
ثم نبّه عباده إلى عظيم قدرته وإحاطة علمه، فقال:
١- اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي إن الله هو الذي أبدع السموات السبع، والأرضين السبع، أي سبعا مثل السموات السبع، يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه ووحيه من السموات السبع إلى الأرضين السبع، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [الملك ٦٧/ ٣].
وثبت في الصحيحين: «من ظلم قيد شبر من الأرض، طوّقه من سبع أرضين»
وفي صحيح البخاري: «خسف به إلى سبع أرضين»
وفي البخاري وغيره أيضا: «اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن».
وروى ابن مسعود أن النّبي ﷺ قال: «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي، إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».
وقال قتادة: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه.
٢- لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً أي فعل ذلك، فخلق السموات والأرض وأنزل قضاءه وأمره فيهما، لأجل أن تعلموا كمال قدرته، وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه شيء
منها كائنا ما كان، فاحذروا المخالفة، واعتبروا بمصير الأمم السابقة، فإن الله عالم بأعمالكم كلها، وسيجازيكم عليها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- حذر الله سبحانه من مخالفة أوامره، من طريق بيان عتو قوم وحلول العذاب بهم، فكثير من أهل القرى الظالمة التي عصت أمر الله ورسله، جازاهم بالعذاب في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف وسائر المصائب، وسيحاسبهم في الآخرة حسابا شديدا، ويعذبهم عذابا منكرا عظيما.
فذاقوا عاقبة كفرهم، وكان عاقبة أمرهم الهلاك والخسران في الدنيا بما ذكر، وفي الآخرة بجهنم.
وقد بيّن الله تعالى نوع الخسر وهو أنه عذاب جهنم في الآخرة.
٢- أمر الله بالتقوى عن الكفر به وبرسوله، وجعل الأمر خطابا لأهل العقول الراجحة، وللمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، والذين أنزل عليهم القرآن، وأرسل لهم الرسول محمدا ﷺ الذي يتلو عليهم الآيات البينات الواضحات التي تبين ما يحتاج إليه الناس من الأحكام والشرائع.
والتقوى: الخوف من الله والعمل بطاعته، والانتهاء عن معاصيه. والغاية السامية من التقوى والإيمان والعمل الصالح هي الخروج من الكفر والضلالة إلى الهدى والنور.
٣- الدليل على كمال قدرة الله تعالى، وأنه يقدر على البعث والحساب هو خلق السموات والأرض، والدليل على إحاطة علم الله تعالى بكل شيء: علمه بجميع أحوال أهل السماء وأهل الأرض، وتدبير الكون، وتنزيل الأمر فيهم،
وإنفاذ القضاء والحكم والوحي في شؤونهم، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته، وهو القادر على مجازاة جميع مخلوقاته، ولا يعلم أجرام السماء ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها في المخلوقات إلا علام الغيوب.
ولا خلاف في أن السموات سبع، بعضها فوق بعض، كما دلّ حديث الإسراء وغيره، واختلفوا في الأرض، فقال الجمهور: إنها سبع أرضين طباقا، بعضها فوق بعض، ولعل ذلك طبقات الأرض، لقوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي سبعا من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق أو فرجة، وللأحاديث الصحيحة المتقدمة مثل
الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن عائشة وسعيد بن زيد: «من ظلم قيد شبر من الأرض، طوّقه من سبع أرضين».
وقيل: إنها أرض واحدة، وأن المماثلة ليست في العدد، وأن المماثلة في العدد، وإنما هي في الخلق والإبداع والإحكام. والرأي الأول أصح وأظهر، كما قال القرطبي وغيره من كبار المفسرين القدامى والمعاصرين، لأن الأخبار دالّة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التحريممدنيّة، وهي اثنتا عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة «التحريم»، لتحريم النبي ﷺ شيئا على نفسه، وافتتاح السورة بعتابه على سبيل التلطف في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ...
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة:
١- افتتاح السورتين كلتيهما بخطاب النّبي صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ.
٢- اشتراك السورتين في الأحكام المخصوصة بالنساء، فالأولى سورة الطلاق في بيان أحكام الطلاق والعدة وحقوق المعتدة وحسن المعاشرة، وهذه السورة في موقف بعض نساء النّبي ﷺ وكيفية معاملة النّبي ﷺ لهنّ بالحسنى واللين والنصح.
٣- إن سورة الطلاق المتقدمة في تحريم ما أحل الله بالطلاق، وإنهاء خصومة بعض نساء الأمة، وهذه السورة في تحريم ما أحل الله من نوع آخر بالإيلاء، وإنهاء خصومة نساء النّبي صلى الله عليه وسلم، وإفرادها بأحكامهن تعظيما لهن، لذا ختمت بذكر زوجته في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران. صفحة رقم 300
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المدنية تتضمن بعض أحكام التشريع الخاصة بأمهات المؤمنين لتكون نموذجا يحتذي لجميع الأمة.
ابتدأت السورة بعتاب لطيف للنّبي ﷺ على تحريمه على نفسه شيئا مباحا وهو العسل كما ثبت في الصحيح إرضاء لبعض أزواجه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ.. الآية.
ثم وجّهت العتاب لبعض أزواج النبي لإفشائهن السرّ حين أسرّ النبي ﷺ إلى زوجته حفصة، فأخبرت به عائشة، مما أغضب النّبي صلى الله عليه وسلم، وهمّ بتطليق أزواجه، وهدّدهن الله بإبداله أزواجا خيرا منهن: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ...
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ...
وناسب هذا التذكير باتقاء أهل بيت الإيمان النار والترهيب من الجزاء، وبالتوبة النصوح، وبجهاد الكفار والمنافقين من غير انشغال بأحوال البيت والأسرة من أزواج وأولاد.
وختمت السورة بضرب مثلين عظيمين: أحدهما للكافرين، والثاني للمؤمنين، والأول مثل الزوجة الكافرة: امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام، عند الرجل المؤمن الصالح، والثاني مثل الزوجة المؤمنة: امرأة فرعون، عند الرجل الكافر الفاجر، ومثل المرأة الحرة التقية البتول في غير عصمة أحد، تنبيها للناس على وجوب اعتماد الإنسان على نفسه، وأنه لا يغني في الآخرة أحد عن أحد، ولا ينفع حسب ولا نسب إذا ساء العمل.