آيات من القرآن الكريم

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من دابة وجماد وجن وإنس وملائكة وحوت وطير لهذا الإله الجليل «الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (١) في ملكه وحكمه. واعلم أن التسبيح ثلاثة أقسام خلقه وهو إذا نظرت إلى كلّ شيء من المكونات الإلهية، دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه، وأنه الخالق الموجد له ومعرفة وهو جعل الله تعالى في كلّ شيء ما يعرف به ربه، بحيث لو سألته من سماك وسواك ينطق بلسان حاله أو قاله بلا تردد أو توقف معترفا بأن الله تعالى مكونه ومميزه عن غيره، يدلك هذا قوله عز وجل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية ١٥ من سورة الإسراء ج ١، وضرورة بان يجري الله تعالى لفظ تسبيحه وتنزيهه عما لا يليق به على كلّ جوهر أوجده في كونه من غير معرفة له بذلك، راجع أول سورة الحديد المارة. واعلم أن هذا الإله العظيم المعلوم لدى كلّ خلقه المسبح بكل لسان «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ» أهل مكة ومن حولها لأنهم لا يقرءون ولا يكتبون ولا يحسبون «رَسُولًا مِنْهُمْ» أمّيّا مثلهم ومن جنسهم فجعله «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ» التي أنزلها عليه لإرشادهم ونصحهم، وهذه معجزة دالة على تصديقه كافية عن كلّ معجزة «وَيُزَكِّيهِمْ» بذلك من دنس الشرك ودون الكفر ووسخ العصيان «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» الذي أمره الله بتلاوته عليهم ليعرفوا معالم دينهم وما يرمي إليه «وَالْحِكْمَةَ» يعلمها لهم أيضا وهي الفقه فيه ليفطنوا لمراميه ويعلموا مغازيه ويتفهموا تعاليمه الحكيمة التي ترفع شأنهم بين الأمم وتعلى كلمتهم عليهم وتهديهم إلى طرق النّجاح والفلاح «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ» بعثته إليهم «لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (٢) ظاهر وهم مائلون عن الحق وطرقه لا يميزون بين الحلال والحرام، غافلون عما شرعه الله لأمم الأنبياء يدينون بما تسول لهم أنفسهم يتبعون شهواتهم في ذلك، تراهم عاكفين على عبادة الأوثان مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع، مائلين إلى هوى أنفسهم، لا يدينون بدين، ولا يعرفون رب العالمين. واعلم أن هذه التي بصدر هذه الجملة مخففة من الثقيلة واسمها محذوف (أي أنهم)

صفحة رقم 254

مطلب الفرق بين إن النّافية والمخففة ومما يدل على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم والفرق بين لم ولما:
ووجود اللام في (لَفِي) دليل عليها وتسمى اللام الفارقة بين النّافية التي هي بمعنى ما وإن المخففة، لأن اللام لا تأتي بعد إن النّافية «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ» عطف على الأميين وهم كلّ من آمن بهذا النّبي الأمي واتبع دينه إلى يوم القيامة «لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» لم يدركهم وسيجيئون بعدهم، أي فكما أنه صلّى الله عليه وسلم مبعوث لأهل مكة ومن حولها في ذلك الزمن مبعوث أيضا للأجيال الحادثة الآتية بعدهم وهذه الآية أيضا فيها دلالة على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم التي المحنا إليها في الآية ٢٨ من سورة سبأ في ج ٢ وعلى كونه خاتم الأنبياء كما أشرنا في الآية ٤٠ من سورة الأحزاب المارة، وعلى فضله العام المنوه به في الآية ٢٥٣ من سورة البقرة المارة ولهذا البحث صلة في الآية ١٥٨ من سورة الأعراف في ج ١ فراجعها. واعلم أن النفي بلمّا متصل إلى زمن التكلم بخلاف النّفي بلم فإنه منقطع عنه، فإذا قلت جئت ولم يأت زيد مثلا فيحتمل أنه جاء بعد مجيئك، وإذا قلت ولما يأت فيكون المعنى لم يأت إلى زمن التكلم. هذا وجاء في الحديث المخرج في الصّحيحين عن أبي هريرة قال كنا جلوسا عند النّبي صلّى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم إلخ قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الّذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول الله يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هولاء. راجع الآية الأخيرة من سورة القتال سورة محمد صلّى الله عليه وسلم المارة لتعلقها بهذا البحث. واعلم أن هذا الحديث لا يخصص الآية بالفرس والأكراد ولا يقيدها بهم كما قال بعضهم لأن الآية عامة فيهم وفي غيرهم إلى يوم القيامة من كلّ من يأتي بعد ويدين بدين الإسلام من الملل والنّحل كافة، لأن المسلمين أمة واحدة عربهم وعجمهم أبيضهم وأحمرهم أسودهم وسمرهم وأصفرهم «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (٣) الذي أيد هذا النبي الأمي ومكّنه في أمره العظيم ونصره على من أرسله إليهم ونشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها «ذلِكَ» الفضل الذي خص به هذا الرّسول المحترم

صفحة رقم 255

هو «فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده برحمته ولطفه لا بعمل ولا بقوة قال في الجوهرة:

ولم تكن نبوة مكتسبة ولو رقى في الخير أعلى عقدة
وقال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية ١٢٤ من سورة الأنعام ج ٢ «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (٤) على خلقه ومن أعظم فضله عليهم إرسال محمد صلّى الله عليه وسلم لهدايتهم وإنقاذهم من الظّلمات إلى النّور، وأعظم فضله على أنبيائه أن خصهم برسالته، وجعلهم هداة لخلقه. واعلم أن مطلق الفضل يمنّ به الله على من من يشاء من عباده، وقد يكون لسبب اجتهاد العبد سواء كان دنيويا أو أخرويا أما النّبوة فلا تكون بالاجتهاد أبدا ولو قام اللّيل وصام النّهار طول عمره وتصدق بجميع ما عنده. قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ» فكلفوا علمها والعمل بها من الحمالة بالصدر والقلب لا من الحمل على الظّهر أو الأيدي «ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» فلم يعملوا بها ولم يقوموا بحقها ولم يؤدوا ما افترضه الله عليهم بها، لأن من علم الشيء ولم يعمل به فكأنه لم يعلمه، فمثله في حالة هذه «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» كتبا عظاما جمع سفر وهو الكتاب الكبير الضّخم فوبخهم الله تعالى على مبلغ علمهم فيما أنزله إليهم وصدودهم وحدهم عنه بقوله جل قوله «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله لإرشادهم «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (٥) أنفسهم لعدم قبولهم نعمة الله وتكذيبهم بآياته ولا يوجد بالقرآن آية مبدوءة بكلمة بئس إلّا هذه والآية ١١ من الحجرات المارة وهذا مثل ضربه الله لليهود والّذين أعرضوا عمّا في التوراة وعن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم، كما أعرضوا عن الإيمان بعيسى عليه السّلام إذ لم ينتفعوا بما فيها ولا بما تلقوه من آثار الأنبياء السّالفين فلم يهتدوا بهديهم، لأن من جملة هدى التوراة والأنبياء الّذين عملوا بها الإيمان بالرسل الّذين يأتون بعد موسى الّذين منهم عيسى ومحمد وقد كفروا بهما، ولذلك شبهوا بالحمار الذي يحمل الكتب على ظهره ولم يدر ما هي فلا ينتفع بها، ولا فرق عنده بين أن يحملها أو يحمل حطبا، وهذا المثل يدخل فيه من يقرأ القرآن ولم يعمل به ولم يفهم مراده من معانيه، ولا

صفحة رقم 256

مغازيه من مراميه، ولم يفطن لما انطوى عليه من حكم وعلوم، وكذلك من أعرض عنه اعراض من لا يحتاج إليه وهجره في بيته كالمتاع الذي لا يسأل عنه، وهؤلاء هم الّذين شكاهم الرّسول إلى ربه بقوله تعالى (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) الآية ٢١ من الفرقان في ج ١. ويدخل هذا في قوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) الآية ١٢٤ من سورة طه في ج ١. ومما يؤسف أن أكثر أهل هذا الزمن هكذا وخاصة الشّباب الّذين لا يهمهم شأنه لانصرافهم إلى الكتب الحديثة التي لا علاقة لها بالدين والقرآن وتوغلهم في الرّوايات والقصص وغيرهما مما هو كذب وتخيل، وترى الفصيح منهم يقرأ السفر فلا يغلط فيه وإذا قرأ آية من القرآن يتخبط فيها فلا حول ولا قوة إلا بالله، يا ويح آبائهم ويا خسارتهم اللهم اهدهم وسائر المسلمين إلى سواء السّبيل واحفظهم من أن يدخلوا في معنى هذه الآية قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ» محمد فمن دونه وتقولون نحن أبناء الله وأحباؤه «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٦) في زعمكم لأن ما بينكم وبين الله إلّا الموت والمحب حريص على الاجتماع مع محبوبه وسريع الطّلب إلى الالتحاق به والآخرة لأحباب الله خير من الدّنيا ولكنكم كاذبون في دعواكم قال تعالى ردا على زعمهم هذا «وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الكفر المبعد عن الإيمان بالله فضلا عن تلبسهم بالجحود والظّلم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (٧) أمثالهم الّذين يكرهون الموت لما فيه من الويلات عليهم وتهالكهم على الدّنيا وتكالبهم على البقاء راجع الآية ٩٦ من البقرة المارة المصدرة بلن وهذه بلا وكلاهما نفي للمستقبل إلّا أن لن أكد من لا بالنفي وقد جاءت الآية الأولى بالتأكيد وهذه بدونه قال تعالى «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» حتما لا ينجيكم منه أحد ولا مهرب منه راجع الآية ٧٨ من سورة النساء «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (٨) في هذه الدّنيا ويجازيكم بحسبه إن خيرا فخير
وإن شرا فشر.

صفحة رقم 257

مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» أجمعت الأمة على أن المراد بهذا النّداء الأذان بين يدي الخطيب حين جلوسه على المنبر لا الأذان الأوّل على المنائر، روى البخاري عن السّائب بن زيد قال كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر النّاس زاد النّداء الثاني على الزوراء (موقع عند سوق المدينة مرتفع) زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك ولا بي داود قال كان يؤذن بين يدي رسول الله إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد. وسمى هذا اليوم جمعة لأن الله تعالى جمع خلق آدم فيه وفرغ فيه من خلق الدّنيا بما فيها من المخلوقات فاجتمعت فيه. ورواه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم خير يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنّة وفيه أخرج منها ولا تقوم السّاعة إلّا في يوم الجمعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله فيها شيئا ألا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها وأول من سماه في العرب كعب بن لؤي وكان يسمى يوم العروية وأول من جمع النّاس فيه بالمدينة سعد بن زرارة قبل تشريف النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة وأول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة في بطن وادي بني سالم بن عوف أفتتخذوه مسجدا وقد المعنا لما يتعلق في هذا البحث في الآية ١٢٤ من سورة النّحل والآية ٤ من سورة الدّخان في ج ٢ والآية المذكورة تحتوي على ما يتعلق بسائر الأيام فراجعها وما ترشدك إليه من المواضع. هذا وإذا سمعتم النّداء أيها النّاس «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» امضوا وسارعوا لا تجروا وتركضوا، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصّلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا «وَذَرُوا الْبَيْعَ» دعوه واتركوه ولبّوا داعي الله، ولفظ البيع يتناول الشّراء لأنه يطلق عليه «ذلِكُمْ» المبادرة إلى صلاة الجمعة وترك العمل عند سماع النّداء «خَيْرٌ لَكُمْ» عند الله من الانشغال في الأمور الدّنيوية كلها «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (٩) ما يصلح لكم في الدّنيا

صفحة رقم 258

ويهذب نفوسكم فيها ويوصلكم إلى خير الآخرة التي خلقتم لأجلها، قال تعالى (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من الذاريات في ج ٢ واعلم أن ثمرة العبادة وما تشتمل عليه من الصّدق والأمانة والوفاء وإن كانت في الدّنيا الثناء والمدح وائتمان النّاس على أموالهم وأعراضهم، إلا أن ثمرتها الحقيقة الدّائمة التي ينعم بها صاحبها تكون في الآخرة. الحكم الشّرعي يحرم البيع والشّراء وجميع الأعمال الدّنيوية عند الأذان الأخير حتى ان الفقهاء قالوا بعدم صحة العقود كلها إذ ذاك وكلّ عقد يقع آنذاك فهو باطل، ولا يجوز السّفر فيه أيضا، بدليل ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه، قال بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحه في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، فغزا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله ثم ألحقهم، فلما صلّى رآه صلّى الله عليه وسلم فقال ما منعك أن تغزو مع أصحابك؟ قال أردت أن أصلي معك ثم أتبعهم، فقال لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غزوتهم. ورأى عمر رجلا يقول لولا أن اليوم جمعة لخرجت، فقال أخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر. وهذا أولى من القول بعدم جواز السّفر فيها بعد طلوع الفجر، لأن النّهي عن السّفر والبيع وغيره وقت الأذان الثاني، أما قبله فلا مانع وتنعقد في ثلاثة مع الإمام، ولا تصح إلّا في المصر، وبإذن الوالي، ويجوز تعددها إذا لم يوجد جامع يسع المصلين كافة بقدر الحاجة، فإذا كان يكفي المصلين جامعان فلا حاجة إلى الثالث، وهكذا كي تصح الجمعة بإجماع العلماء، أما إذا كان التعدد زائدا على الحاجة ففيه أقوال بعدم صحتها، وأقوال بصلاة الظّهر بعدها احتياطا، ويجوز تركها للمريض ولمن يتعاهده ولمن يخاف من عدو أو ظالم وعند المطر والوحل. أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه خطب في يوم ذي أرواح (جمع ريح لا
روح بمعنى النّفس والأرواح بمعنى الرّاحة والرّحمة ونسيم الريح) فأمر المؤذن حينما بلغ حي على الصّلاة أن يقول الصّلاة في الرّحال، فنظر القوم فقال كأنكم أنكرتم عليّ؟ إن هذا فعله من هو خير مني، يعني النّبي صلّى الله عليه وسلم وإنها عزيمة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطّين والرّحض والزلق. وهي فرض عين على كلّ مسلم حرّ بالغ عاقل ذكر مقيم. أخرج أبو داود عن طارق

صفحة رقم 259

ابن شهاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الجمعة حق واجب على كلّ مسلم في جماعة إلا على أربعة: عبد مملوك وامرأة وصبي ومريض، وتجب على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النّداء في موضع تقام فيه الجمعة. وأخرج أبو داود عن عبد الله بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الجمعة على من سمع النّداء. وهي آكد من الظّهر إذ لأظهر لمن بصليها، وأوجب الحنفية صلاة أربع ركعات في البيت بنية آخر ظهر احتياطا من أن يكون التعدد لغير حاجته. ولا تصلى في الجامع لئلا يعتقد العوام فرضيتها، لأن الله لم يفرض فريضتين بوقت واحد على عباده، وأوجب الشّافعية صلاة الظّهر حالة التعدد لعدم تحققه هل هو لحاجة أم لا، والأحسن عندهم أن تصلى في الجامع بجماعة وعليه العمل في الأمصار كافة، وتفصيل هذا البحث في كتب الفقه فلتراجع. وسبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم عن جابر. قال بينما نحن نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أقبلت غير تحمل طعاما فانقتلوا إليها حتى ما بقي مع النّبي صلّى الله عليه وسلم إلّا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه وفي رواية قال والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا وأراد باللهو ما يفعلونه عند استقبال القوافل بالطبول والتصفيق. وشروط صحة الخطبة: حمد الله بما هو أهله، والصّلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلم، والوصية بتقوى الله، وتلاوة آية من القرآن في الخطبة الأولى، والدّعاء للمؤمنين في الثانية. ويستحب عدم تطويلهما ويراعى أحوال النّاس والمواسم، وكان صلّى الله عليه وسلم يطيل الصّلاة ويقصر الخطبة وإطالة الصّلاة في الصّبح والعشاء بحسب رغبة المصلين مطلوبة وقصرها في الظّهر والعصر والمغرب مسنون، لأنها أوقات اشتغال النّاس. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما. وروى مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرّحمن بن الحكم يخطب جالسا، فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقال الله تعالى (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً) إلخ الآية قال تعالى «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» بيعا وشراء وعملا وغيره من أسباب الرّزق «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» بعد فراغكم منها، ومن ذكر الله تعالى بعدها قائما وقاعدا ومضطجعا، فقد ذكر الله

صفحة رقم 260
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية