
وكذلك جاء فى الإنجيل ما هو بشارة به- ففى إنجيل يوحنا فى الفصل الخامس عشر. قال يسوع المسيح: إن الفار قليط روح الحق الذي يرسله أبى، يعلمكم كل شىء.
وفيه أيضا: قال المسيح من يحفظ كلمتى يحبنى، وأبى يحبه، وعنده يتخذ المنزلة، كلمتكم بهذا لأنى لست عندكم بمقيم، والفار قليط روح القدس الذي يرسله أبى هو يعلمكم كل شىء، وهو يذكركم كل ما قلت لكم، أستودعكم سلامى، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع، فإنى منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبونى تفرحون بمضيّى إلى الأب.
وفيه أيضا: إن خيرا لكم أن أنطلق لأبى لأنى إن لم أذهب لم يأتكم الفار قليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء فهو يوبخ العالم على خطيئته، وإن لى كلاما كثيرا أريد قوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتى، ويعرفكم جميع ما للأب.
(والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، فسره بعضهم بالحمّاد وبعضهم بالحامد، ففى مدلوله إشارة إلى اسمه عليه السلام أحمد) كما لا يخفى على من كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فحين جاءهم أحمد المبشّر به بالأدلة الواضحة، والمعجزات الباهرة، فاجئوه بالتكذيب والإعراض عنه استكبارا وعنادا وقالوا: إن ما جئت به ما هو إلا ترّهات وأباطيل، وسحر واضح لا شك فيه.
ونحو الآية قوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» الآية.
[سورة الصف (٦١) : الآيات ٧ الى ٩]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)

شرح المفردات
الإسلام: الاستسلام والانقياد والخضوع لله عز وجل، والمراد من إبطال نور الله بأفواههم إرادتهم إبطال الإسلام، بنحو قولهم هذا سحر مفترى، والله متم نوره:
أي والله متم الحق ومبلغه غايته، بالهدى: أي بالقرآن، ودين الحق: أي بالملة السمحة، ليظهره: أي ليعليه، على الدين كله: أي على سائر الأديان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته ﷺ من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مفترى- أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح، والبرهان الساطع.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد | وينكر الفمّ طعم الماء من سقم |
فالله متم نوره، ومكمّل دينه مهما جدّ المشركون فى إطفائه فالرسول ﷺ ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم فى معاشهم ومعادهم، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنا فيه، ولا طريقا إلا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام. صفحة رقم 86

الإيضاح
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ؟) أي ومن أشد ظلما وعدوانا ممن اختلق على الله الكذب وجعل له أندادا وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؟
وتلخيص المعنى- أىّ الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام والخضوع، فلا يجيب الداعي بل يفترى على الله الكذب بتكذيب رسوله وقسمية آياته سحرا؟
والمراد أنه أظلم من كل ظالم، لأنه قد أهدر عقله، وركب هواه، وألقى الأدلة وراءه ظهريا.
ثم بين سبب ظلمهم وفساد عقائدهم فقال:
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي والله لا يرشد الظالمين لأنفسهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم، لأنهم دسّوها باجتراح السيئات، وارتكاب الموبقات، فختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا تفهم الأدلة المنصوبة فى الكون، ولا تهتدى بهدى العقل، بل تسير فى عماية وتمشى فى ظلام دامس لا تلوى على شىء.
ثم ذكر جدّهم واجتهادهم فى إبطال الدين، واستهزأ بما اتخذوه من الوسائل فقال:
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي إن مثلهم فى مقاومتهم لدعوة الدين، وجدّهم فى إخماد نوره- مثل من ينفخ فى الشمس بفيه ليطفىء نورها، ويحجب ضياءها، وأنى له ذلك؟ فما هو إلا كمن يضرب فى حديد بارد، أو كمن يريد أن يضرم النار فى الرماد، أو كمن يريد أن يصطاد العنقاء.
أرى العنقاء تكبر أن تصادا | فعاند من تطيق له عنادا |