آيات من القرآن الكريم

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ

يهديك اللَّه؛ فكأنه قال: لا أملك سوى أن أدعو لك بالتوفيق للهداية لا أملك لك من عذاب اللَّه من شيء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا).
يجوز أن يكون هذا عند المنابذة وإظهار العداوة مع الكفرة، يعني: عليك معتمدنا في النصر على أعدائنا عند قلة عددنا وكثرة عددهم، وإليك مرجعنا ومفزعنا.
(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، إذا قبضنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥).
ذكر أهل التفسير أن تأويل هذه الآية يخرج على ثلاثة أوجه:
أحدها: أي: لا تسلط علينا أعداءنا؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل.
أو لا تنزل علينا العذاب دونهم؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل.
أو لا توسع عليهم الدنيا وتضيق علينا؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل.
ولو كان التأويل هو الثاني لكان يجيء على هذا أن يكون الواجب على العدول من هذه الأمة أن يسألوا اللَّه - تعالى - العافية؛ لئلا يتوهم فساقهم أنهم على الحق.
ولكن الجواب عن هذا أن الفساق من هذه الأمة قد علموا أن الذي هم فيه من الفسق محظور، وأما الكفرة فإن عندهم أن ما يدينون به من الكفر حق؛ فإذا سلطوا على المؤمنين توهموا أن الذي حسبوه حقًّا: حق، وأما الفسقة من هذه الأمة إذ علموا أن الفسق منهي عنه محظور، لا يقع لهم هذا الحسبان، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون المعنى من قوله: (لَا تَجْعَلْنَا)، يعني: عذابًا، أي: سببًا يعذب به الكفرة؛ كما قال: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، وكان تأويله أن آتنا السبب الذي نستوجب به ما وعدتنا على رسلك، فكذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
يعني: المنتقم من أعدائه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦).
يعني: لقد كانت لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة تحسنون بها إذا اقتديتم بهم وأطعتموهم.

صفحة رقم 612

وقوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يحتمل معنيين:
أحدهما: أي: لمن كان يرجو ثواب اللَّه تعالى.
والثاني: أن يؤمن بالبعث؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - وصف أمر البعث في كتابه بصفات مختلفة: مرة أضافه إلى نفسه بقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)، وكان المعنى منه البعث. ومرة وصفه بصفة أخرى.
وإن كان المراد: الثواب؛ ففيه إخبار أن الراجي في الحقيقة هو الطالب لما يرجوه بالأسباب التي يرجو الوصول بها إلى ما دعا ورجا، والخائف في الحقيقة هو الحاذر عما حذر، والمنتهي عما نهي عنه وحظر. فإن من اعتمد على مجرد الرجاء والخوف دون التمسك بسببهما، فهو متمن على اللَّه تعالى.
والدليل على تأييد ما نقول: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ)، ألا تراه كيف حقق معنى الرجاء بالمجاهدة في سبيل اللَّه والعمل بطاعته، واللَّه أعلم.
وإن كان على البعث فكذلك أيضًا؛ لأنه أضرب عما نهي عنه، وطلب لما أمر به؛ فقد تبين أنه يوالي من تفضي موالاته إلى ثواب اللَّه ورحمته، وأنه يعادي من تفضي موالاته إلى نقمة اللَّه وعذابه، ومعلوم أنه لا يفعل ذلك إلا من يؤمن بالبعث؛ فإنما يوالي من رجا منه منفعة الدنيا ويتولى عمن يضره في هذه الدنيا، واللَّه أعلم.
رقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَوَلَّ).
يعني: من يتول عن طاعة اللَّه فيما أمره من معاداة من عادوا ربهم.
(فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
يعني: عن طاعة الخلق؛ ليعلم أن ما أمرهم به لم يأمرهم لحاجة له في طاعتهم أو لمنفعة ترجع إليه؛ بل هو غني عن كل ذلك؛ وإنما أمرهم لحاجتهم إلى ذلك، ولما علم أن منافع طاعتهم ترجع إليهم خاصة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمِيدُ) له معنيان: معنى: الحامد، ومعنى: المحمود.
فإن كان المراد منه: المحمود، ففيه أن اللَّه - تعالى - يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم.
وإن كان المراد: الحامد، فمعناه: أن اللَّه يحمد الخلق ويشكرهم، حتى يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال فيتفضل عليهم بأعمالهم، فهو حميد من هذين المعنيين.

صفحة رقم 613
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية