
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ... (٧٣)
* * *
أي خلق سبحانه وتعالى السماوات والأرض وما فيهما، بالأمر الثابت وهو الحق، أي خلقه قائما على الحق والحكمة، وأنه قدر وجود هذا الكون بحكمته، وما خلقه ليفنى وينتهي، بل خلقه ليبقى، ويستمر، وهذا كقوله تعالى: (أَفَحَسِبْتمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجعُونَ). بل إنكم راجعون وستبقون إما في نعيم مقيم وإما في عذاب خالد وقال القرطبي: معنى بالحق، أي بكلمة الحق، وهي كن، وما ذكرناه أوضح.
ثم بين سبحانه وتعالى أن بعثهم ليس شيئا عسيرا ولا بعيدا ولا غريبا، بل إن البعث يكون بكلمة هي الحق فقال تعالى: (وَيَوْمَ يَقُولُ كن فَيَكُونُ). أي هذا القول الثابت الذي هو حق في ذاته، وهو كن فيكون أي أنه بقوله تعالى: كن، فإنه يكون كل شيء قد حضر فيجمع ما بعث من القبور، ويخرج الناس أشتاتا، مهما يكونوا وأينما يكونوا، كما قال تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (٥٢)، فيوم يقول كن فيكون يكون البعث الكامل.
وقد قال سبحانه وتعالى إن قوله هذا هو الحق الذيِ لَا ريب فيه، وإنه آت لا محالة، ولذا قال: (قَوْلُهُ الْحَقُّ) وهو مبتدأ خبره (يوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ) أي

الظرف الذي تعلق بالخبر، ووصف سبحانه وتعالى ذلك بالحق لما أحاطه من إنكار وجحود، واستغراب وعجب، كما قال تعالى: (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...)، وأن الله تعالى يذكر حال ذلك اليوم الذي يقول سبحانه وتعالى قوله الحق (كُن فَيَكُونُ) يكون الملك الثابت الدائم الذي لَا يشاركه فيه أحد؛ ولذا قال تعالى: (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ) والصور كما يقول القرطبي - قرن من نور ينفخ فيه بقدرة الله تعالى فيكون الجمع مما بعث في القبور من بعده الحساب والعقاب أو الثواب كما قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١).
وقد وصف الله تعالى ذاته الكريمة بما يدل على أنه يعلم كل ما يفعله الذين يبعثون، فقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي يعلم ما غيّب، وما يشهد ويحضر، أي يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويكافئ الناس على ما عملوا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر وكل امرئ بما كسب رهين.
وإن ذلك كله على مقتضى حكمته وعلمه الذي لَا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض؛ ولذا ختم سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالى: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
* * *

إيمان إبراهيم بعد تفكير وتأملاته في الكون
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
* * *
كان الكلام في الآيات السابقات في الأصنام، وأنها لَا تنفع ولا تضر، وأنها لا تملك من أمر نفسها شيئا، حتى تملك من أمر غيرها، ممن يدعونها واقعين تحت أوهام تضافرت وتكاثرت عليها السنون حتى صارت كأنها حقائق في زعمهم، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى كيف أنكرها أبو العرب الذي يعتزون بنسبهم إليه، وأنه عدها ضلالا مبينا، وخاطب بذلك أباه مستنكرا، ورؤية الحقائق باررة من لسان شخص يكون أشد أثرا، وأنقى فكرا وأبعث على الاعتبار.