قَالَ تَعَالَى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (٥٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَفَاتِحُ) : هُوَ جَمْعُ مَفْتَحٍ، وَالْمَفْتَحُ الْخِزَانَةُ؛ فَأَمَّا مَا يُفْتَحُ بِهِ فَهُوَ مِفْتَاحٌ، وَجَمْعُهُ مَفَاتِيحُ، وَقَدْ قِيلَ: مِفْتَحٌ أَيْضًا.
(لَا يَعْلَمُهَا) : حَالٌ مِنْ مَفَاتِحَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ، أَوْ نَفْسُ الظَّرْفِ، إِنْ رُفِعَتْ بِهِ مَفَاتِحُ. وَ (مِنْ وَرَقَةٍ) : فَاعِلٌ. (وَلَا حَبَّةٍ) : مَعْطُوفٌ عَلَى لَفْظِ وَرَقَةٍ، وَلَوْ رُفِعَ عَلَى الْمَوْضِعِ جَازَ.
(وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ) : مِثْلُهُ. وَقَدْ قُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْمَوْضِعِ.
(إِلَّا فِي كِتَابٍ) : أَيْ إِلَّا هُوَ فِي كِتَابٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً يَعْمَلُ فِيهِ «يَعْلَمُهَا» لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا إِلَّا فِي كِتَابٍ، فَيَنْقَلِبُ مَعْنَاهُ إِلَى الْإِثْبَاتِ؛ أَيْ: لَا يَعْلَمُهَا فِي كِتَابٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي كِتَابٍ، وَجَبَ أَنْ يَعْلَمَهَا فِي الْكِتَابِ، فَإِذًا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ؛ أَيْ: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا هِيَ فِي كِتَابٍ وَمَا يَعْلَمُهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِاللَّيْلِ) : الْبَاءُ هُنَا بِمَعْنَى فِي، وَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، وَالْمُلَاصِقُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ حَاصِلٌ فِيهِمَا.
(لِيُقْضَى أَجَلٌ) : عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَيُقْرَأُ عَلَى تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، وَأَجَلًا نُصِبَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) (٦١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ) : يَحْتَمِلُ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ «يَتَوَفَّاكُمْ» وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْقَاهِرِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ فِي مَعْنَى يَفْعَلُ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: الطَّائِرُ الذُّبَابُ فَيَغْضَبُ زَيْدٌ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَهُوَ يُرْسِلُ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْقَاهِرِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ، وَعَلَيْكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بَيُرْسِلُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي نِيَّةِ التَّأْخِيرِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ «حَفَظَةً» وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: يُرْسِلُ مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِحَفَظَةٍ قُدِّمَتْ فَصَارَ حَالًا.
(تَوَفَّتْهُ) : يُقْرَأُ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ، وَبِأَلِفٍ مُمَالَةٍ عَلَى إِرَادَةِ الْجَمْعِ.
وَيُقْرَأُ شَاذًّا: «تَتَوَفَّاهُ» عَلَى الِاسْتِقْبَالِ. (