آيات من القرآن الكريم

۞ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ

مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ فِي أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ سِوَاهُ. وَكَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ حَيْثُ أَشْرَكْتُمْ بِهِ غَيْرَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ هَذَا الشِّرْكِ. وَالْقَوْمُ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ ذَلِكَ الْعَذَابِ. فَقَالَ تَعَالَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يَعْنِي قَوْلَهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: ٣٢] وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ يُنْزِلُهُ اللَّه فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَ إِنْزَالَهُ فِيهِ. وَلَا قُدْرَةَ لِي عَلَى تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وهذا مطلق يتناول الكل. والمراد هاهنا إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للَّه فَقَطْ فِي تَأْخِيرِ عَذَابِهِمْ يَقْضِي الْحَقَّ أَيِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا يَقْضِي مِنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيلِ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أَيِ الْقَاضِينَ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه بِهِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ فِعْلُ الْكُفْرِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه بِهِ وَحَكَمَ بِهِ. وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه. وَاحْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ:
يَقْضِي الْحَقَّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا قَضَى بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرِيدَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ. وَلَا الْمَعْصِيَةَ مِنَ الْعَاصِي لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ الْحَقَّ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ يَقُصُّ الْحَقَّ بِالصَّادِ مِنَ الْقَصَصِ، يعني أن كل ما أنبأ اللَّه بِهِ وَأَمَرَ بِهِ فَهُوَ مِنْ أَقَاصِيصِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: ٣] وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَقْضِ الْحَقَّ وَالْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ «يَقْضِ» بِغَيْرِ يَاءٍ لِأَنَّهَا سَقَطَتْ فِي اللَّفْظِ لالتقاء الساكنين كما كتبوا سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨] فَما تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: ٥] وقوله: يقضى الْحَقَّ قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهِ وَجْهَانِ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقَّ صِفَةَ الْمَصْدَرِ وَالتَّقْدِيرُ: يَقْضِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَقْضِ الْحَقَّ يَصْنَعُ الْحَقَّ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ اللَّه فَهُوَ حَقٌّ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْحَقَّ يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ وَقَضَى/ بِمَعْنَى صَنَعَ. قَالَ الْهُذَلِيُّ:

وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ
أَيْ صَنَعَهُمَا دَاوُدُ وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ قَالَ وَالْفَصْلُ يَكُونُ فِي الْقَضَاءِ، لَا فِي الْقَصَصِ.
أجاب أبو علي الفارسي فقال القصص هاهنا بِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَدْ جَاءَ الْفَصْلُ فِي الْقَوْلِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطَّارِقِ: ١٣] وَقَالَ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هُودٍ: ١] وَقَالَ: نُفَصِّلُ الْآياتِ [الأعراف:
٣٢].
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)

صفحة رقم 9

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ] اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى لَوْ أَنَّ عِنْدِي أَيْ فِي قُدْرَتِي وَإِمْكَانِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لَأَهْلَكْتُكُمْ عَاجِلًا غَضَبًا لِرَبِّي، وَاقْتِصَاصًا مِنْ تَكْذِيبِكُمْ بِهِ. وَلَتَخَلَّصْتُ سَرِيعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وَبِمَا يَجِبُ فِي الْحِكْمَةِ مِنْ وَقْتِ عِقَابِهِمْ وَمِقْدَارِهِ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَعْلَمُ وَقْتَ عُقُوبَةِ الظَّالِمِينَ.
واللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهُوَ يُؤَخِّرُهُ إِلَى وقته، واللَّه أعلم.
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ إلى قوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ يُعَجِّلُ مَا تَعْجِيلُهُ أَصْلَحُ وَيُؤَخِّرُ مَا تَأْخِيرُهُ أَصْلَحُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ. وَمَفْتَحٍ، وَالْمِفْتَحُ بِالْكَسْرِ الْمِفْتَاحُ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ وَالْمَفْتَحُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْخِزَانَةُ وَكُلُّ خِزَانَةٍ كَانَتْ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مَفْتَحٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [الْقَصَصِ: ٧٦] يَعْنِي خَزَائِنَهُ فَلَفْظُ الْمَفَاتِحِ يُمْكِنُ أن يكون المراد منه المفاتيح يتوصل بها إلى ما الْخَزَائِنَ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ جَعَلَ لِلْغَيْبِ مَفَاتِيحَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْمَفَاتِيحَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا فِي الْخَزَائِنِ الْمُسْتَوْثَقِ مِنْهَا بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ فَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي فَتْحِ تِلْكَ الْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ إِلَى مَا فِي تلك الخزائن فكذلك هاهنا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقُرِئَ مَفَاتِيحُ وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ الْغَيْبِ. فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ الْمُمَكِنَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحِجْرِ: ٢١] وَلِلْحُكَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ عَجِيبٌ مُفَرَّعٌ عَلَى أُصُولِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ. قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ كَائِنٌ بِتَكْوِينِهِ وَاقِعٌ بِإِيقَاعِهِ. إِمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ عَلَى التَّرْتِيبِ النَّازِلِ مِنْ عِنْدِهِ طُولًا وَعَرْضًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فنقول: علمه بذاته يوجب عمله بِالْأَثَرِ الْأَوَّلِ الصَّادِرِ مِنْهُ، ثُمَّ عِلْمُهُ بِذَلِكَ الأثر الأول يوجب عمله بِالْأَثَرِ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَثَرَ الْأَوَّلَ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ لِلْأَثَرِ الثَّانِي. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ فَبِهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ لَيْسَ إِلَّا عِلْمَ الْحَقِّ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَلْمِهِ بِذَاتِهِ عِلْمُهُ بِالْآثَارِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ عَلَى تَرْتِيبِهَا الْمُعْتَبَرِ، وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ بِذَاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا لِذَاتِهِ لَا جَرَمَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى هذه الطريقة.
ثم اعلم أن هاهنا دَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ: أَنَّ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ قَضَايَا الْحِسِّ وَالْخَيَالِ وَأَلِفُوا اسْتِحْضَارَ

صفحة رقم 10

الْمَعْقُولَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَالنَّادِرِ وَقَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ قَضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَقْوَى عَقْلُهُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَادِرٌ جِدًّا. وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. فَهَهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ الْمُجَرَّدَةَ، فَإِذَا أَرَادَ إِيصَالَهَا إِلَى عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ ذَكَرَ لَهَا مِثَالًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولُ بِمُعَاوَنَةِ هَذَا الْمِثَالِ الْمَحْسُوسِ مَفْهُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَدَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها/ إِلَّا هُوَ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْقُولَ الْكُلِّيَّ الْمُجَرَّدَ بِجُزْئِيٍّ مَحْسُوسٍ فَقَالَ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ أَقْسَامِ مَعْلُومَاتِ اللَّه هُوَ جَمِيعُ دَوَابِّ الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ، وَالْحِسُّ، وَالْخَيَالُ قَدْ وَقَفَ عَلَى عَظَمَةِ أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَذِكْرُ هَذَا الْمَحْسُوسِ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ عَظَمَةِ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ.
وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ شَاهَدَ أَحْوَالَ الْبَرِّ، وَكَثْرَةَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، وَكَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ. وَأَمَّا الْبَحْرُ فَإِحَاطَةُ الْعَقْلِ بِأَحْوَالِهِ أَقَلُّ إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجَائِبَ الْبِحَارِ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ وَطُولَهَا وَعَرْضَهَا أَعْظَمُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْجَبُ. فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْخَيَالُ صُورَةَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ. ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ مَجْمُوعَهَا قِسْمٌ حَقِيرٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَيَصِيرُ هَذَا الْمِثَالُ الْمَحْسُوسُ مُقَوِّيًا وَمُكَمِّلًا لِلْعَظَمَةِ الْحَاصِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَا كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ قَوْلِهِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ بِذِكْرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ مَا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ كَمْ فِيهَا مِنَ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُ وَرَقَةٍ إِلَّا وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهَا ثُمَّ يَتَجَاوَزُ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ إِلَى مِثَالٍ آخَرٍ أَشَدَّ هَيْئَةً مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّةَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ وَظُلُمَاتُ الْأَرْضِ مَوْضِعٌ يَبْقَى أَكْبَرُ الْأَجْسَامِ وَأَعْظَمُهَا مَخْفِيًّا فِيهَا فَإِذَا سَمِعَ أَنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ الصَّغِيرَةَ الْمُلْقَاةَ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ عَلَى اتِّسَاعِهَا وَعَظَمَتِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى الْبَتَّةَ، صَارَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى عَظَمَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَلَالَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِيهَا وَتَتَقَاصَرُ الْأَفْكَارُ وَالْأَلْبَابُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَبَادِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَوَّى أَمْرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمَحْضِ الْمُجَرَّدِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ فَبَعْدَ ذِكْرِهَا عَادَ إِلَى ذِكْرِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الْمُجَرَّدَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَهَذَا مَا عَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ الْعَالِيَةِ. وَمِنَ اللَّه التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى فَاعِلُ الْعَالَمِ بِجَوَاهِرِهِ وَأَعْرَاضِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِهَا فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا وَالْحُكَمَاءُ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْأَثَرِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّهَا:
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَدَلَّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِيَّةِ وَذَلِكَ/ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَجَبَ كَوْنُهُ مَبْدَأً لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْأَثَرِ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ وَالزَّمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَزَمَانِيَّةٌ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.

صفحة رقم 11
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية