
هذا، والمعنى: لست بهذه الصفات فيلزمني أن أجيبكم باقتراحاتكم، وقوله لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يحتمل معنيين أظهرهما أن يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئا مما غيب عنه، والآخر أنه ليس بإله فكأنه قال لا أقول لكم إني أتصف بأوصاف إله في أن عندي خزائنه وأني أعلم الغيب، وهذا هو قول الطبري وتعطي قوة اللفظ في هذه الآية الملك أفضل من البشر، وليس ذلك بلازم من هذا الموضع، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعا في نفوسهم وأقرب إلى الله، والتفضيل يعطيه المعنى عطاء خفيا وهو ظاهر من آيات أخر، وهي مسألة خلاف، وما يُوحى يريد القرآن وسائر ما يأتي به الملك، أي وفي ذلك عبر وآية لمن تأمل ونظر، وقوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الآية، أي قل لهم إنه لا يستوي الناظر المفكر في الآيات أو المعرض الكافر المهمل للنظر، فالأعمى والبصير مثالان للمؤمن والكافر، أي ففكروا أنتم وانظروا وجاء الأمر بالفكرة في عبارة العرض والتحضيض وأَنْذِرْ عطف على قُلْ، والنبي عليه السلام مأمور بإنذار جميع الخلائق، وإنما وقع التحضيض هنا بحسب المعنى الذي قصد، وذلك أن فيما تقدم من الآيات نوعا من اليائس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة الذين قد قال فيهم أيضا أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: ٦، يس: ١٠] فكأنه قيل له هنا: قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا ودعهم ورأيهم لأنفسهم وأنذر بالقرآن هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل للانتفاع، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم، بل الإنذار العام ثابت مستقر، والضمير في بِهِ عائد على ما يُوحى «ويخافون» على بابها في الخوف أي الذين يخافون ما تحققوه من أن يحشروا ويستعدون لذلك، ورب متحقق لشيء مخوف وهو لقلة النظر والحزم لا يخافه ولا يستعد له.
قال القاضي أبو محمد: وقال الطبري: وقيل يَخافُونَ هنا بمعنى يعلمون، وهذا غير لازم وقوله الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ يعم بنفس اللفظ كل مؤمن بالبعث من مسلم ويهودي ونصراني، وقوله لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ يحتمل معنيين فإن جعلناه داخلا في الخوف في موضع نصب على الحال أي يخافون أن يحشروا في حال من لا ولي له ولا شفيع، فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين ولأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل، وإن جعلنا قوله:
لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ إخبارا من الله تعالى عن صفة الحال يومئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ترجّ على حسب ما يرى البشر ويعطيه نظرهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
المراد ب الَّذِينَ ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا بلال وعمار وابن أم عبد ومرثد الغنوي وخباب وصهيب وصبيح وذو الشمالين والمقداد ونحوهم وسبب الآية أن الكفار قال بعضهم للنبي

صلى الله عليه وسلم: نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء، فلو طردتهم لاتبعناك وجالسناك، ورد في ذلك حديث عن ابن مسعود، وقيل: إنما قال هذه المقالة أبو طالب على جهة النصح للنبي ﷺ قال له: لو أزلت هؤلاء لاتبعك أشراف قومك وروي أن ملأ قريش اجتمعوا إلى أبي طالب في ذلك، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة، فصوب هذا الرأي من أبي طالب عمر بن الخطاب وغيره من المؤمنين فنزلت الآية، وقال ابن عباس: إن بعض الكفار إنما طلب أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول في الصلاة، ويكونون هم موضعهم، ويؤمنون إذا طرد هؤلاء من الصف الأول فنزلت الآية، أسند الطبري إلى خباب بن الأرت أن الأقرع بن حابس ومن شابهه من أشراف العرب قالوا للنبي ﷺ اجعل لنا منك مجلسا، لا يخالطنا فيه العبيد والحلفاء، واكتب لنا كتابا، فهمّ النبي ﷺ بذلك فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بعيد في نزول الآية، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة، وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم ولكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة اللهم إلا تكون الآية مدنية، قال خباب رضي الله عنه: ثم نزلت وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ٥٤] الآية فكنا نأتي فيقول لنا: سلام عليكم ونقعد معه، فإذا أراد يقوم قام وتركنا، فأنزل الله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف: ٢٨] الآية فكان يقعد معنا، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم ويَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قال الحسن بن أبي الحسن المراد به صلاة مكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشيا وقيل: بل قوله: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ عبارة عن استمرار الفعل وأن الزمن معمور به، كما تقول: الحمد لله بكرة وأصيلا، فإنما تريد الحمد لله في كل وقت والمراد على هذا التأويل قيل، هو الصلوات الخمس، قاله ابن عباس وإبراهيم، وقيل الدعاء وذكر الله واللفظة على وجهها وقال بعض القصاص: إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشيا فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما وقالوا: إنما الآية في الصلوات في الجماعة، وقيل: قراءة القرآن وتعلمه قاله أبو جعفر ذكره الطبري، وقيل العبادة قاله الضحاك: وقرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وابن عامر «بالغدوة والعشي»، وروي عن أبي عبد الرحمن «بالغدو» بغير هاء، وقرأ ابن أبي عبلة «بالغدوات والعشيات» بألف فيهما على الجمع، وغدوة: معرفة لأنها جعلت علما لوقت من ذلك اليوم بعينه وجاز إدخال الألف واللام عليها كما حكى أبو زيد لقيته فينة غير مصروف والفينة بعد الفينة فألحقوا لام المعرفة ما استعمل معرفة، وحملا على ما حكاه الخليل أنه يقال: لقيته اليوم غدوة منونا، ولأن فيها مع تعيين اليوم، إمكان تقدير معنى الشياع، ذكره أبو علي الفارسي ووَجْهَهُ في هذا الموضع معناه جهة التزلق إليه كما تقول خرج فلان في وجه كذا أي في مقصد وجهة وما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ معناه لم تكلف شيئا غير دعائهم فتقدم أنت وتؤخر ويظهر يكون الضمير في حِسابِهِمْ وعَلَيْهِمْ للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين، أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطرد هؤلاء رعيا لذلك، والضمير في «تطردهم» عائد على الضعفة من المؤمنين، ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبدا سبب ما قبلها، وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين، وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا، أي لا ترزقهم ولا يرزقونك.