
العجب أو السرور أو الويل يقول: اقربي أو احضري فهذا وقتك وزمنك، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع، وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضا بنداء الجمادات كقولك يا دار ويا ربع، وفي نداء ما لا يعقل كقولهم يا جمل، ونحو هذا، وفَرَّطْنا معناه قصرنا مع القدرة على ترك التقصير، وهذه حقيقة التفريط، والضمير في قوله فِيها عائد على السَّاعَةُ أي في التقدمة لها، وهذا قول الحسن، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة في أول الآية، ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار، وعوده على السَّاعَةُ إنما معناه في أمورها والاستعداد لها، بمنزلة زيد في العلم مشتغل.
وقوله تعالى:
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ الآية، الواو واو الحال، والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب، تقول منه وزر يزر إذا حمل، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤] وتقول وزر الرجل فهو موزور، قال أبو عبيد والعامة مازور، وأما إذا اقترن ذلك بما جوز فإن العرب تقول مأزور، وقد قال رسول الله ﷺ لنساء لقيهن مقبلات من المقابر: ارجعن مأزورات غير مأجورات قال أبو علي وغيره فهذا للإتباع اللفظي، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال، وقوى التشبيه بأن جعله على الظهور إذ هو في العادة موضع حمل الأثقال، ومن قال إنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ إليه ومنه الوزير وهو المعين فهي مقالة غير بينة، وقال الطبري وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبرا أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفوحها فيسلم عليه ويقول له طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم، قال فيحمله تمثال العمل، وأن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ويقول أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم، قال فيحمل تمثال عمله وأوزاره على ظهره، وقوله تعالى: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ إخبار عن سوء ما يأثمون مضمن التعظيم لذلك والإشادة به، وهذا كقول النبي ﷺ ألا فليبلغ الشاهد الغائب، وقوله ألا هل بلغت، فإنما أراد الإشادة والتشهير وهذا كله يتضمنه أَلا، وأما ساءَ ما يَزِرُونَ فهو خبر مجرد كقول الشاعر: [البسيط]
رضيت خطّة خسف غير طائلة | فساء هذا رضى يا قيس غيلانا |
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا، والمعنى: أنها إذا كانت فانية منقضية لا طائل لها أشبهت اللعب واللهو الذي لا طائل له إذا تقضى، وقرأ السنة من القراء «وللدار» بلامين والْآخِرَةُ نعت للدار، وقرأ ابن صفحة رقم 284

عامر وحده «ولدار» بلام واحدة، وكذلك وقع في مصاحف الشام بإضافة الدار إلى الآخرة، وهذا نحو مسجد الجامع أي مسجد اليوم الجامع، فكذلك هذا ولدار الحياة الآخرة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يعقلون» على إرادة الغائب، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: «تعقلون» على إرادة المخاطبين، وكذلك في الأعراف وفي آخر يوسف، ووافقهم أبو بكر في آخر يوسف فأما أَفَلا يَعْقِلُونَ في يس [الآية: ٦٨] فقرأه نافع وابن ذكوان: بتاء والباقون بياء، وهذه الآية تتضمن الرد على قولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: ٢٩] وهو المقصود بها، ويصح أن يكون قوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ على معنى فقل لهم يا محمد إذ الحال على هذه الصفة أَفَلا تَعْقِلُونَ.
وقوله تعالى:
قَدْ نَعْلَمُ الآية، قَدْ الملازم للفعل حرف يجيء مع التوقع إما عند المتكلم وإما عند السامع أو مقدرا عنده فإذا كان الفعل خالصا للاستقبال كان التوقع من المتكلم، كقولك قد يقوم زيد وقد ينزل المطر في شهر كذا إذا كان الفعل ماضيا أو فعل حال بمعنى المضي مثل آيتنا هذه، فإن التوقع ليس من المتكلم بل المتكلم موجب ما أخبر به، وإنما كان التوقع عند السامع فيخبره المتكلم بأحد المتوقعين، ونَعْلَمُ تتضمن إذا كانت من الله تعالى استمرار العلم وقدمه، فهي تعم المضي والحال والاستقبال، ودخلت «إن» للمبالغة في التأكيد، وقرأ نافع وحده «ليحزنك» من أحزن، وقرأ الباقون «ليحزنك» من حزن الرجل، وقرأ أبو رجاء «ليحزنك» بكسر اللام والزاي وجزم النون، وقرأ الأعمش أنه بفتح الهمزة «يحزنك» بغير لام، قال أبو علي الفارسي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي يحزن حزنا وحزنا وحزنته أنا، وحكي عن الخليل أن قولهم حزنته ليس هو تغيير حزن على نحو دخل وأدخلته، ولكنه بمعنى جعلت فيه حزنا كما تقول كحلته ودهنته، قال الخليل ولو أردت تغيير حزن لقلت أحزنته، وحكى أبو زيد الأنصاري في كتاب خباة العرب أحزنت الرجل، قال أبو علي وحزنت الرجل أكثر استعمالا عندهم من أحزنته، فمن قرأ «ليحزنك» بضم الياء فهو على القياس في التغيير، ومن قرأ «ليحزنك» بفتح الياء وضم الزاي فهو على كثرة الاستعمال، والَّذِي يَقُولُونَ لفظ يعم جميع أقوالهم التي تتضمن الرد على النبي ﷺ والدفع في صدر نبوته، كقول بعضهم إنه كذاب، مفتر، ساحر، وقول بعضهم إنه مجنون مسحور، وقول بعضهم به رئي من الجن ونحو هذا وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة لا يُكَذِّبُونَكَ بتشديد الدال وفتح الكاف، وقرأها ابن عباس وردها على قارئ عليه «يكذبونك» بضم الياء، وقال: إنهم كانوا يسمونه الأمين، وقرأ نافع والكسائي بسكون الكاف وتخفيف الذال، وقرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان، واختلف المتأولون في معناهما فقالت فرقة: هما بمعنى واحد كما تقول:
سقيت وأسقيت وقللت وأقللت وكثرت وأكثرت، وحكى الكسائي أن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، وتقول العرب أيضا أكذبت الرجل إذا وجدته كذابا كما تقول أحمدته إذا وجدته محمودا، فالمعنى على قراءة من قرأ «يكذّبونك» بتشديد الذال أي لا تحزن «فإنهم لا يكذبونك» تكذيبا يضرك إذ لست بكاذب في حقيقتك، فتكذيبهم كلا تكذيب، ويحتمل أن يريد: «فإنهم لا يكذبونك» على جهة الإخبار عنهم أنهم لا يكذبون وأنهم يعلمون

صدقه ونبوته ولكنهم يجحدون عنادا منهم وظلما، والآية على هذا لا تتناول جميع الكفار بل تخص الطائفة التي حكى عنها أنها كانت تقول: إنا لنعلم أن محمدا صادق ولكن إذا آمنا به فضلتنا بنو هاشم بالنبوة فنحن لا نؤمن به أبدا، رويت هذه المقالة عن أبي جهل ومن جرى مجراه، وحكى النقاش أن الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السر ويقول نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس والمعنى على قراءة من قرأ «يكذبونك» بتخفيف الذال يحتمل ما ذكرناه أولا في «يكذبونك» أي لا يجدونك كاذبا في حقيقتك ويحتمل هذين الوجهين اللذين ذكرت في «يكذّبونك» بشد الذال، وآيات الله علاماته وشواهد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويَجْحَدُونَ حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة وهو ضد الإقرار، ومعناه على تأويل من رأى الآية في المعاندين مترتب على حقيقته وهو قول قتادة والسدي وغيرهما، وعلى قول من رأى أن الآية في الكفار قاطبة دون تخصيص أهل العناد يكون في اللفظة تجوز وذلك أنهم لما أنكروا نبوته وراموا تكذيبه بالدعوى التي لا تعضدها حجة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظا عليهم وتقبيحا لفعلهم، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يعلمها ويقربها.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وجميع ما في هذه التأويلات من نفي التكذيب إنما هو عن اعتقادهم، وأما أقوال جميعهم فمكذبة، إما له وإما للذي جاء به.
قال القاضي أبو محمد: وكفر العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر وظواهر القرآن تعطيه، كقوله:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤] وغيرها، وذهب بعض المتكلمين إلى المنع من جوازه، وذهبوا إلى أن المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر، ولا سبيل إلى اجتماعهما، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا في قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها [النمل: ١٤] إنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم وغيرها.
قال القاضي أبو محمد: ودفع ما يتصور العقل ويعقل من جواز كفر العناد على هذه الطريقة صعب أما أن كفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد لأنه لا داعية إلى كفر العناد إلا الحسد ومن عرف الله والنبوة وأن محمدا يجيئه ملك من السماء فلا سبيل إلى بقاء الحسد مع ذلك، أما أنه جائز فقد رأى أبو جهل على رأس النبي ﷺ فحلا عظيما من الإبل قد همّ بأبي جهل ولكنه كفر مع ذلك، وأسند الطبري أن جبريل عليه السلام وجد النبي عليه السلام حزينا فسأله، فقال: كذبني هؤلاء، فقال: «إنهم لا يكذبونك» بل يعلمون أنك صادق وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، والذي عندي في كفر حيي بن أخطب ومن جرى مجراه أنهم كانوا يرون صفات النبي ﷺ ويعرفونها أو أكثرها ثم يرون من آياته زائدا على ما عندهم فيتعلقون في مغالطة أنفسهم بكل شبهة بأضعف سبب، وتتخالج ظنونهم فيقولون مرة هو ذلك ومرة عساه ليسه، ثم ينضاف إلى هذا حسدهم وفقدهم الرياسة، فيتزايد ويتمكن إعراضهم وكفرهم وهم على هذا، وإن عرفوا أشياء وعاندوا فيها فقد قطعوا في ذلك بأنفسهم عن الوصول إلى غاية المعرفة وبقوا في ظلمة الجهل فهم جاهلون بأشياء معاندون في أشياء غيرها وأنا أستبعد العناد مع المعرفة التامة.