آيات من القرآن الكريم

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ

وواضح من هذا أن من المحرمات اليهودية ما هو غير محرم في الشريعة الإسلامية كالأيل والأرنب والنعام والدم المتجمد غير المسفوح. وفي سفر الأحبار محرمات أخرى غير محرمة في الشريعة الإسلامية مثل حيوانات الماء من بحار وأنهار التي ليس لها زعانف في حين أن الله قد أحل للمسلمين صيد البحر مطلقا بدون تفريق كما جاء في آية سورة المائدة هذه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [٩٦] وفي ما حلّ للمسلمين وحرم على اليهود في شريعتهم مصداق لما قلناه من تخفيف رباني في الشريعة الإسلامية يرشحها للخلود والعموم.
وفي كتب التفسير بعض الأحاديث في صدد الشحوم. حيث روى البغوي بطرقه عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح المكي «إن الله ورسوله حرّما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستضيء الناس بها فقال لا هو حرام ثم قال قاتل الله اليهود إن الله عزّ وجلّ لما حرّم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه». حيث يفيد هذا أن شحم الميتة حرام أكلا واستعمالا دون شحم ما يذبح ذبحا. والحديث لم يرد في كتب الصحاح والذي ورد في هذه الكتب مماثل للشطر الثاني منه حيث روى البخاري عن جابر قال: «قال النبي ﷺ قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها» «١». حيث يفيد هذا أن الشطر الأول لم يثبت عند البخاري وليس في الشطر الثاني تحريم وإنما فيه تحذير المسلمين من الاحتيال على شرائع الله كما فعل اليهود والله تعالى أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٠]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)

(١) التاج ج ٤ ص ١٠١.

صفحة رقم 180

(١) شهداؤكم: تكرر ورود هذه الكلمة وكلمة شهداء أيضا وجاءت في معان متنوعة، منها الشركاء ومنها سدنة الأصنام ورجال الدين عند المشركين.
ومنها جمع للشهيد الذي يشهد على ما يقع بين الناس من أفعال ومعاملات.
ومنها جمع للشهيد الذي يحصي على الناس أعمالهم من الملائكة ويشهد عليهم ويشهد محاسبتهم يوم القيامة. ومنها جمع للشهيد الذي يموت شهيدا في الجهاد وفي غير الجهاد. والكلمة هنا رجال دين المشركين على ما يفيده فحوى العبارة.
(٢) وهم بربهم يعدلون: يجعلون لربهم معادلين وأندادا.
في الآيات حكاية لما يمكن أن يقوله المشركون أمام الحقائق التي يقررها القرآن والحجج الدامغة التي يفحمهم بها حيث يعمدون إلى المداورة والمماراة فيقولون إن الله لو شاء لما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا شيئا مما جرينا على تحريمه. وردّ على أقوالهم هذه بأن أمثالهم من قبلهم كانوا يعمدون إلى مثل مداورتهم ومماراتهم في مواقف الجحود والمكابرة والتكذيب التي كانوا يقفونها من أنبيائهم فأدّى ذلك إلى وقوع بأس الله وعذابه فيهم. وأمر للنبي ﷺ بمطالبتهم بإظهار ما عندهم من علم أو برهان على صحة تقاليدهم وصدق نسبتها إلى الله.
وبأن يقرر لهم بأنهم لا يتبعون إلا الظن والتخمين. وبأن يعلن أن لله الحجة البالغة وأنه لو شاء لهدى الناس جميعا. وبأن يتحدى المشركين بالإتيان بشهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما يحرمون. وأمر آخر للنبي ﷺ بعدم اتباع أهواء وأوهام المكذبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ويجعلون لله شركاء وأندادا معادلين له إذا ما

صفحة رقم 181

جاءوا فعلا بشهدائهم وشهدوا بما يؤيد مزاعمهم وبعدم التسليم بصحة شهادتهم وتصديقهم فيها.
وواضح أن الآيات متصلة بالآيات السابقة وفصل من فصول المناظرة القائمة بين المشركين والنبي ﷺ في صدد تقاليد التحريم والتحليل.
وبدء الآية الأولى يتضمن أن القول الذي حكي عن المشركين هو ما يتوقع صدوره منهم. وهذا الأسلوب مألوف في المناظرات كما لا يخفى. ولا يبعد أن يكون قد وقع منهم في موقف مماثل فتوقع أن يقولوه في هذا الموقف. وفي آية في سورة النحل سجل صدور ذلك منهم فعلا وهي هذه: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥).
والمتبادر أن المشركين قصدوا إفحام النبي ﷺ بقولهم إنما يفعلون ما يفعلون بمشيئة الله وأنه لو لم يشأ لما فعلوه. فردت عليهم الآيات ردّين أشارت في أولهما إلى وحدة أخلاق وطبيعة الجاحدين المكذبين دائما في نزوعهم إلى المراوغة واللعب بالألفاظ. وأكدت في ثانيهما أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا، حيث انطوى فيه تقرير حكمة الله سبحانه التي اقتضت أن يكون للناس حرية الاختيار والسلوك لتكون له عليهم الحجة الدامغة البالغة.
تعليق على الآية سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ والآيتين التاليتين لها
ولقد كانت هذه الآيات موضوع بحث وجدل في بعض كتب التفسير بين أصحاب المذاهب الكلامية المختلفة منهم، الذين يقول فريق منهم إن الإنسان

صفحة رقم 182

خالق أفعاله وإن الله يقدرها عليه من الأزل تقديرا لا حيلة له فيه. والذين يقولون إنه خالق كل شيء ومقدره ومن ذلك أفعال العباد.
والآيات في أصلها حكاية لقول المشركين وردّ عليهم وتكذيب لهم. ومع ذلك فنحن نرى فيها على ضوء الشرح الذي شرحناه بها والذي نرجو أن يكون الصواب ردا مستمر التلقين على كل من يريد أن يقرر أن القرآن يؤيد فكرة التحتيم الجبري الأزلي على الناس في تصرفاتهم وأفعالهم. وعلى كل من يحاول التنصل من مسؤولية ما يقترفه من آثام بحجة أن هذا مكتوب عليه وأن الله لو لم يشأ فإنه لا يكون. وفي الآية الأولى نصا وروحا قرينة على أننا على صواب إن شاء الله حيث حكت حجة المشركين التي عمدوا إليها بأسلوب تنديدي وتسفيهي وأنكرتها إنكارا شديدا وأرجعتها إلى الروح الخبيثة التي يصدر عنها المشركون المكابرون المكذبون في كل ظرف ومكان وهي روح التعطيل والمراوغة والجدل والمكابرة.
وفي الآية نكتة لاذعة، فالمشركون حاولوا أن يقيموا الحجة على النبي ﷺ بقولهم لو شاء الله ما أشركنا والقرآن يردّ عليهم ويقول إن الحجة البالغة لله تعالى فهو لو شاء لهداهم ولكنه تركهم لاختيارهم لتكون حجته هي الدامغة وتدحض بذلك حجتهم. فالله لا يمكن أن يشاء لهم الشرك وإنما يدعوهم إلى الإيمان فإذا كانوا اختاروا الشرك وتقاليده فذلك من حثهم وعدم ارعوائهم لدعوة الحق.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن في كل ما تقدم تقبيحا قرآنيا مستمرا لهذه الروح ودعوة للمسلمين إلى النفرة منها. ولقد تكرر هذا في القرآن كثيرا ومرت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. ولا نرى هذا متنافيا مع واجب الإيمان بما قرره القرآن بأساليب متنوعة بأن مشيئة الله هي النافذة في كونه وخلقه وعباده. ولقد قلنا في مناسبة سابقة بأنه جعل الاختيار والكسب للناس لتحميلهم مسؤولية أعمالهم في الأصل من مشيئة الله أيضا وأن الله لا يمكن أن يشاء لعباده الكفر والكذب والتكذيب لآياته ورسله وقد رتب عليهم الجزاء الذي يستحقه ذلك وهذا مما يصح أن يورد في هذا المقام أيضا. والله أعلم.

صفحة رقم 183
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية