
وقال ابن عباس: (يريد: الملحدين) (١).
١٤٨ - قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ الآية. أخبر الله تعالى عنهم بما سيقولونه (٢) إذا لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما هم عليه من الشرك بالله، وتحريم ما لم يحرمه الله.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا آبَاؤُنَا﴾ عطف على المضمر المرفوع في ﴿أَشْرَكْنَا﴾ من غير توكيد للمضمر وهو قبيح لولا قوله: (ولا)، فإنه قام مقام تأكيد المضمر (٣)، وهذه المسألة قد مضت بالاستقصاء (٤).
قال المفسرون (٥) (إن المشركين جعلوا قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ حجة لهم على إقامتهم على الشرك، فقالوا: إن الله رضي منا ما نحن عليه، وأراده منا، وأمرنا به، ولو لم يرضه لحال بيننا وبينه، فقال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد: الذين من قبل قومك كذبوا أنبيائهم، وقالوا مثل ما قال هؤلاء) (٦).
فإن قيل: لم كذبوا في إضافة مشيئة شركهم إلى الله؟
(٢) في (أ): (بما سيقولو إذا لزمتهم).
(٣) انظر "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٢، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٩٠، وقد ذهب الكوفيون إلى أنه: يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل نحو (قمت وزيد). وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إلا على قبح في ضرورة الشعر. وأجمعوا على أنه إذا كان هناك توكيد أو فصل فإنه يجوز معه العطف من غير قبح. انظر: الكتاب ٢/ ٢٧٧، و"الإنصاف" ٣٨٠، و"الدر المصون" ٥/ ٢١٠.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر "تفسير الطبري" ٨/ ٧٨٠، السمرقندي ١/ ٥٢٢، البغوي ٣/ ٢٠١.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٧٢، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٤٥.

قيل: إنهم لم يكذبوا في ذلك، ولو كذبوا في قولهم ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾، لقيل: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ﴾ بالتخفيف (١)، ولكن المعنى: كما [كذبك هؤلاء] (٢)، كذب كفار الأمم الخالية أنبياءهم، ولم يتعرض لقولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾، ولكن قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ لا يكون حجة لهم على أن ما هم عليه من الدين حق؛ لأن الأشياء كلها تجري بمشيئة الله تعالى، فلو كانوا على صواب؛ لأن ذلك بمشيئة الله تعالى لكان من خالفهم أيضًا وجب أن يكون عندهم على صواب؛ لأنهم أيضًا على ما شاء الله، فينبغي أن لا يقولوا إنهم ضالون، فبان أنه لا حجة لهم في قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ وإن كان الأمر على ما قالوا؛ لأنهم تركوا أمر الله وتعلقوا بمشيئته، وأمر الله تعالى بمعزل عن إرادته؛ لأنه مريد لجميع الكائنات، غير آمر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يحفظ الأمر ويتبعه، وليس له أن يتعلق بالمشيئة بعد ورود الأمر [بما يجب عليه] (٣) الانتهاء إليه، وهذا معنى ما ذكره أبو إسحاق (٤) وغيره من العلماء (٥).
(٢) لفظ: (كذبك هؤلاء)، ساقط من (ش).
(٣) في (ش): (بعد ورود الأمر لما يجب الانتهاء إليه).
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٢.
(٥) ومنهم: الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٨، ٧٩، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٥١٣ - ٥١٤، والثعلبي في "تفسيره" ص ١٨٥ ب، والبغوي ٣/ ٢٠١.

وقال أبو علي الجرجاني: (احتج (١) المشركون بأنهم أشركوا بمشيئة الله، والمراد بالمشيئة هاهنا: الأمر، وترك النهي لا الإرادة التي يقولها المؤمنون، أيضًا أن الشرك وكل كائن فهو بمشيئته، وإنما يكون لهم تعلق بهذا إذا أرادوا بالمشيئة الأمر، ألا ترى أن رجلاً لو كان معه حدث فعوتب عليه فقال: لو شاء فلان لم أفعله (٢) لم يكن له في ظاهر هذا القول عذر، ولا تعلق إلا أن يعني به أنه أمره به، ومن عادة العرب الجارية بينهم في المحاورات إذ أمر الرجل بشيء ففعله، فيتم عليه الأمر وعاتبه عليه أن يقول له: لو شئت أنت لم أفعله، أي: أنك أنت أمرتني به فلمَ تنكره عليّ ولو نهيتني عنه لم أفعله، ويدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن هذا محمول على الأمر قوله: ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [الأنعام: ١٤٣]، وهذا يدل على أنهم أضافوا ذلك التحريم إلى أن الله تعالى أمرهم به لا إلى مشيئته. ولو أضافوا ذلك إلى المشيئة لقال عز وجل في الإنكار عليهم: قل أتحريم الذكرين شاء لكم أم تحريم الأنثيين، وكذلك قوله: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ [الأنعام: ١٤٤]، وهل تكون التوصية إلا أمرًا ظاهرًا لا مشيئة باطنة، ولم يكن الله ليطالبهم بأن يكونوا شهداء بمشيئته، ثم قال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: ١٤٤] يعني قولهم (٣): إن الله أمرنا بتحريم هذه الأنعام، وكذلك قوله: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا﴾ [الأنعام: ١٥٠] أي: أمر بتحريمه فلما دلت هذه الآيات على أنهم أضافوا ما كانوا عليه إلى أن الله تعالى
(٢) في (ش): (يفعله).
(٣) لفظ (قولهم)، ساقط من (أ).

أمرهم به كان.
قوله: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ أي: لو نهانا عن الشرك ولم يأمرنا به ﴿مَا أَشْرَكْنَا﴾، فأضافوا شركهم إلى أمره، كما أضافوا التحريم، وقد صرح الله تعالى بهذا الذي ذكرنا في الإخبار عنهم في قوله: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٨]، فالمرجع على ما رتبنا وبيّنا في تأويل قوله: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ وجميع ما يتصل به إلى أنهم ادَّعوا على الله أنه أمرهم به، فكذّبهم الله في ادعائهم أمره بذلك، لا أنه كذبهم في إضافتهم مشيئة ما هم فيه إليه، ومما جاء في القرآن، من مثل هذا قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ إلى قوله: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ [الأعراف: ١٦٩]، فهذا تبكيت لهم على قولهم (سَيُغْفَرُ لَنَا) (١)؛ لأن الكذب لا يقع إلا فيه مما ذكر في (٢) هذه الآية، ومعنى قولهم ﴿سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ أنهم ادّعوا أن الله وعدهم أن يغفر لهم، فكذّبهم الله تعالى في ادعائهم الوعد، ولا يحسن حمله إلا على هذا الوجه؛ لأنه لا يحسن أن ينكر عليهم حسن الظن بالله في الغفران وحسن الظن غير مذموم) (٣).
وقال أبو بكر بن الأنباري: (إنما عابهم الله تعالى بردّ المشيئة إليه حن استهزءوا واحتجوا على المؤمنين، وضَعّفوا أمر الرسل بردّ المشيئة إلى الله فقالوا للمؤمنين: ما نحتاج إلى اتباع الرسل؛ لأن الذي نحن عليه بمشيئة
(٢) لفظ: (في) ساقط من (ش).
(٣) لم أقف عليه عن أبي علي الجرجاني.

ربنا، وعلى أنه لو شاء نقلنا عنه، فلما لم يقولوه على جهة التعظيم لله [وقالوه] (١) طاعنين على المسلمين، ومضعّفين أمر الأنبياء نعاه الله عز وجل عليهم وبيّن جهلهم فيه) (٢).
وهذا قول الحسين بن الفضل: (أنهم قالوا هذه المقالة تكذيبًا وتخرّصًا وجدلًا من غير معرفة بالله وبما يقولون، ولو قالوها تعظيمًا وإجلالًا لله ومعرفة منهم به لما عابهم الله بذلك؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ [الأنعام: ١٠٧]، والمؤمنون يقولونه، ونظير هذا قوله: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ [الزخرف: ٢٠] قال الله: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ [الزخرف: ٢٠] أي: قولهم هذا من غير علمٍ منهم بالله، والمؤمنون يقولونه بعلم بالله منهم) (٣).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾، قال ابن عباس: (أي: من كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرّمتم) (٤)، ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ ما تتبعون فيما أنتم عليه إلا الظن، لا العلم واليقين ﴿وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ وما أنتم إلا خارصين، كاذبين، والمراد بلفظ الاستقبال: الاسم كما تقول: رأيته يصلي، أي: مصليًا، ويأكل أي:
(٢) لم أقف عليه.
(٣) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٥ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٠١، والخازن ٢/ ١٩٧، وقال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٨٧: (قال بعض المفسرين: إنما هذه المقالة من المشركين على جهة الاستهزاء، وهذا ضعيف) اهـ.
(٤) ذكره الوحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٦، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٤٥ بدون نسبة.