
المنَاسَبَة: لّما أخبر تعالى عن المشركين أنهم حرّموا أشياء مما رزقهم الله وحكى طرفاً من قبائحهم وجرائمهم، ذكر تعالى هناما امتنَّ به عليهم من الرزق الذي تصرفوا فيه بغير إِذنه تعالى افتراءً منهم عليه واختلافاً، ثم أعقبه باحتجاجهم على الشرك وعدم الإِيمان بالقضاء والقدر، وهذا أيضاً من جملة الكذب والبهتان والافتراء على الله.
اللغَة: ﴿مَعْرُوشَاتٍ﴾ مرفوعات على ما يحملها من العيدان ﴿حَصَادِهِ﴾ الحصاد: جمع الثمر كالجُذاذ ﴿حَمُولَةً﴾ الحمولة: الإِبل التي تحمل الأثقال على ظهورها ﴿فَرْشاً﴾ الفرش: الصغا التي لا تصلح للحمل كالفُصلان والعجاجيل قال الزجاج: الفرشُ صغار الإِبل قال الشاعر:
أورثني حمولةً وفرْشاً | أمُشُّها في كلِّ يومٍ مَشَاً |

للذكر: زوجٌ وللأنثى زوجٌ ويراد بالزوجين من الضأن: الكبشُ والنعجة، ومن المعز: التيسُ والعنز ﴿قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين﴾ هذا إنكارٌ لما كانوا يفعلونه من تحريم ما أحلَّ الله أي قل لهم يا محمد على وجه التوبيخ والزجر: الذكرين من الضأن والمعز حرّم الله عليكم أيها المشركون أم الانثيين منهما؟ ﴿أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين﴾ أي أو ما حملت إِناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى؟ ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ تعجيزٌ وتوبيخ أي أخبروني عن الله بأمرٍ معلوم لا بافتراءٍ ولا بتخرص إِن كنتم صادقين في نسبة ذلك التحريم إِلى الله ﴿وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين﴾ أي وأنشأ لكم من الإِبل اثنين هما الجمل والناقة ومن البقر اثنين هما الجاموس والبقرة ﴿قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين﴾ ؟ كرره هنا مبالغة في التقريع والتوبيخ قال أبو السعود: والمقصود إِنكار أن الله سبحانه حرّم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة وإِظهار كذبهم في ذلك فإِنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادها تارة أخرى ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا﴾ زيادة في التوبيخ أي هل كنتم حاضرين حين وصاكم الله بهذا التحريم؟ وهذا من باب التهكم ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي لا أحد أظلم ممن كذب على اله فنسب إِليه تحريم ما لم يحرّم بغير دليلٍ ولا برهان ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ عمومٌ في كل ظالم، ثم أمر تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يبيّن لهم ما حرمه الله عليهم فقال ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ أي قل يا محمد لكفار مكة لا أجد فيما أوحاه الله إِليَّ من القرآن شيئاً محرماً على أيّ إِنسان إِلا أن يكون ذلك الطعام ميتةً أو دماً سائلاً مصبوباً أو يكون لحم خنزير فإِنه قذرٌ ونجس لتعوده أكل النجاسات ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ أي أو يكون المذبوح فسقاً ذبح على اسم غير الله كالمذبوح على النُّصب، سُميّ فسقاً مبالغةً كأنه نفس الفسق لأنه ذبح على اسم الأصنام ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي من أصابته الضرورة واضطرته إِلى أكل شيء من المحرمات فلا إِثم عليه إِن كان غير باغٍ أي غير قاصد التلذذ بأكلها بدون ضرورة ولا عادٍ أي مجاوزٍ قدر الضرورة التي تدفع عنه الهلاك فالله غفور رحيم بالعباد، ثم بيّن تعالى أن ما حرّمه على اليهود إِنما كان بسبب بغيهم وعصيانهم فقال ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ أي وعلى اليهود خاصةً حرمنا عليهم كل ذي ظُفر قال ابن عباس: هي ذوات الظِّلْفِ كالإِبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والأوز ﴿وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ﴾ أي وحرّمنا عليهم أكل شحوم البقر وشحوم الغنم ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ أي إِلا الشحم الذي علق بالظهر منهما ﴿أَوِ الحوايآ﴾ أي الأمعاء والمصارين ﴿أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ﴾ كشحم الألية والمعنى أن الشحم الذي تعلَّق بالظهور أو احتوت عليه المصارين أو اختلط بعظم كشحم الألية جائز لهم ﴿ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ أي ذلك التحريم بسبب ظلمهم وعدوانهم الذي سبق من قتل الأنبياء وأكل الربا واستحلال أموال الناس بالباطل وإِنّا لصادقون
صفحة رقم 394
فيما قصصنا عليك يا محمد، وفي ذلك تعريضٌ بكذب من حرّم ما لم يحرّم الله والتعريض بكذب اليهود ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ أي فإِن كذبك يا محمد هؤلاء اليهود فيما جئت به من بيان التحريم فقل متعجباً من حالهم ربكم ذو رحمة واسعة حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة إِجرامكم قال في البحر: وهذا كما تقول عند رؤية معصية عظيمة: ما أحلم الله تعالى! وأنت تريد ما أحلمه لإِمهاله العاصي، ثم أعقب وصفه بالرحمة الواسعة بالوعيد الشديد فقال ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين﴾ أي لا تغتروا بسعة رحمته فإِنه لا يُردُّ عذابه وسطوتُه عمن اكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات فهو مع رحمته ذو بأس شديد، وقد جمعت الآية بين الترغيب والترهيب حتى لا يقنط المذنب من الرحمة ولا يغتر العاصي بحلم الله.
﴿سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾ أي سيقول مشركو العرب لو أراد الله ما كفرنا ولا أشركنا نحن ولا آباؤنا يريدون أن شركهم وتحريمهم لما حرّموا كان بمشيئة الله ولو شاء ألا يفعلوا ذلك ما فعلوه، فاحتجوا على ذلك بإِرادة الله كما يقول الواقع في معصية إِذا طلب منه الإِقلاع عنها: هذا قدرُ الله لا مهربَ ولا مفرَّ منه، ولا حجة في هذا لأنهم مكلفون مأمورون بفعل الخير وترك القبيح ولكنها نزعةٌ جبرية يحتج بها السفهاء عندما تدمغهم الحجة قال تعالى في الرد عليهم ﴿كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ أي كذلك كذَّب من سبقهم من الأمم حتى أنزلنا عليهم العذاب ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ﴾ استفهام إِنكاري يقصد به التهكم أي قل لهم هل عندكم حجة أو برهان على صدق قولكم فتظهروه لنا ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ أي ما تتبعون في ذلك إِلا الظنون والأوهام وما أنتم في الحقيقة إِلا تكذبون على الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي قل لهم إِن لم تكن لكم حجة فلله الحجة البينة والواضحة التي بلغت غاية الظهور والإِقناع، فلو شاء لهداكم إِلى الإِيمان أجمعين ولكنه تعالى ترك للخلق أمر الاختيار في الإِيمان والكفر ليتم التكليف ﴿وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
[الكهف: ٢٩] ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا﴾ أي قل لهم يا محمد احضروا لي من يشهد لكم على صحة ما تزعمون أن الله تعالى حرَّم هذه الأشياء التي تدَّعونها من البحيرة والسائبة وغيرهما ﴿فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ أي فإِن حضروا وكذبوا في شهادتهم وزوَّروا فلا تشهد بمثل شهادتهم ولا تصدّقهم فإِنه كذبٌ بحتٌ ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ أي ولا تتبع أهواء المكذبين بآيات الرحمن الذين لا يصدقون بالآخرة ﴿وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي وهم يشركون بالله غيره فيعبدون الأوثان.
البَلاَغَة: ١ - ﴿حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾ بينهما طباقٌ لأن الحمولة الكبارُ الصالحة للحمل، والفرشُ الصغار الدانية من الأرض كأنها فرش.
٢ - ﴿خُطُوَاتِ الشيطان﴾ هذا من لطيف الاستعارة وهي أبلغ عبارة للتحذير من طاعة الشيطان والسير في ركابه.

٣ - ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ من صيغ المبالغة أي مبالغ في المغفرة والرحمة.
٤ - ﴿رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين﴾ جاءت الأولى جملة اسمية لأنها أبلغ في الإِخبار من الفعلية فناسبت وصفه تعالى بالرحمة الواسعة وجاءت الجملة الثانية فعلية ﴿وَلاَ يُرَدُّ﴾ لئلا يتعادل الإِخبار عن الوصفين، وباب الرحمة أوسع أفاده في البحر.
فَائِدَة: في قوله تعالى ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً﴾ إِيذان بأن التحريم إِنما يعلم بالوحي لا بالهوى، وأن الله عَزَّ وَجَلَّ وعلا على المشرع للأحكام والرسول مبلّغٌ عن الله ذلك التشريع كقوله ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ [النجم: ٢ - ٣]