فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على صفات عظيمة لله عز وجل وهي الغنى المطلق عن خلقه وعن أعمالهم، والرحمة الشاملة لعباده، ولا سيما أولياؤه وأهل طاعته، والقدرة الكاملة على الإماتة والاستئصال بالعذاب، والإحياء والإنشاء واستخلاف خلق آخر أمثل وأطوع.
وقال المعتزلة: هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلا منزها عن فعل القبيح، وعلى كونه رحيما محسنا بعباده.
ودلت الآيات أيضا على أن وعد الله محقق منجز، وأن الإيعاد بعذاب الآخر كائن حتما لا محالة، والجزاء أمر لازم لأهل الخير والشر.
وتضمنت الآيات إنذارين: إنذارا في الدنيا لتصحيح الأعمال بالتهديد بعذاب الاستئصال، وإنذارا في الآخرة للرهبة من الحساب وعذاب النار.
ولا شك بأن المصير مختلف بين أهل الطاعة وأهل المعصية، فالعاقبة الحسنة المحمودة لمن آمن بالإسلام وأطاع الله، والمصير المشؤوم لمن كفر بالله وعصاه ورفض أوامره وتحدى رسله.
شريعة الجاهلية في الزروع والثمار والأنعام وقتل الأولاد
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٦ الى ١٤٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
الإعراب:
ساءَ ما يَحْكُمُونَ مِمَّا في موضع رفع لأنه فاعل ساءَ.
زَيَّنَ فعل مبني لمعلوم، وفاعله: شُرَكاؤُهُمْ وقَتْلَ مفعول به وهو مصدر أضيف إلى المفعول. وقرئ زين بالبناء للمجهول، وقتل بالضم نائب الفاعل، وشُرَكاؤُهُمْ فاعل مرفوع بفعل مقدر دل عليه زَيَّنَ كأنه قيل: لما قيل: زين لهم قتل أولادهم: من زينه؟ فقيل: زينه لهم شركاؤهم. وقرأ ابن عامر بنصب: أولادهم، وجر:
شركائهم بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ولا يضر كما قال السيوطي، وهو وجه سائغ لغة، بدليل أنها قراءة متواترة.
مَنْ نَشاءُ مَنْ فاعل مرفوع لفعل: يطعم.
ما فِي بُطُونِ ما اسم موصول، بمعنى الذي مبتدأ مرفوع، وفِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ صلته. وخالِصَةٌ خبر المبتدأ، وأنث خالصة، حملا على معنى ما لأن المراد بما في بطون هذه الأنعام: الأجنة، وذكّر: مُحَرَّمٌ حملا على لفظ ما ويجوز أن يكون خالِصَةٌ بدلا مرفوعا من ما بدل بعض من كل، ولِذُكُورِنا الخبر. ومن قرأ خالصة بالنصب كان منصوبا على الحال من الضمير المرفوع في قوله فِي بُطُونِ. وخبر المبتدأ الذي هو ما: لِذُكُورِنا.
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً اسم يَكُنْ ضمير مضمر فيها، ومَيْتَةً خبرها. ويَكُنْ محمول على لفظ ما وتقديره: وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. ومن رفع ميتة فلأن تأنيث الميتة ليس بحقيقي. ومن قرأ: تكن بالتاء، وجعل كان تامة بمعنى: حدث ووقع، ورفع ميتة لأنه فاعل، كقوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً [النساء ٤/ ٤٠] في قراءة الرفع. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ منصوب بنزع الخافض أي بوصفهم. سَفَهاً إما منصوب على المصدر، وإما على أنه مفعول لأجله.
البلاغة:
ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ إظهار لفظ الجلالة الثاني، لبيان كمال عتوهم وضلالهم.
المفردات اللغوية:
وَجَعَلُوا أي كفار مكة ذَرَأَ خلق وأبدع الْحَرْثِ الزرع، جعلوا لله نصيبا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، ولشركائهم نصيبا يصرفونه إلى سدنتها فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا أي الأوثان التي يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه، أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا، كما قال تعالى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي لجهته وهي سدنة الآلهة وخدمها. ساءَ بئس ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا.
قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد شُرَكاؤُهُمْ من الجن لِيُرْدُوهُمْ يهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا يخلطوا حِجْرٌ أي حرام ممنوع، والحجر: أصله المنع، ومنه سمي العقل حجرا لمنعه صاحبه إِلَّا مَنْ نَشاءُ من خدمة الأوثان وغيرهم بِزَعْمِهِمْ أي لا حجة لهم فيه وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها فلا تركب، كالسوائب والحوامي وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عند ذبحها بل يذكرون اسم أصنامهم، ونسبوا ذلك إلى الله ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ المحرمة وهي السوائب والبحائر خالِصَةٌ حلال أَزْواجِنا النساء وَصْفَهُمْ أي سيجزيهم جزاء وصفهم ذلك بالتحليل والتحريم إِنَّهُ حَكِيمٌ في صنعه عَلِيمٌ بخلقه سَفَهاً جهلا.
المناسبة:
بعد أن ندد الله تعالى بفساد عقائد المشركين، ومنها إنكار القيامة والبعث والجزاء، ذكر هنا أنواعا وصورا من جهالاتهم وأحكامهم المفتراة في تحليل وتحريم بعض الزروع والثمار والأنعام، ووأد البنات.
التفسير والبيان:
هذه ألوان من شرائع الجاهلية العربية قبل الإسلام التي ابتدعها المشركون، واخترعوها بأهوائهم وآرائهم الفاسدة، وتأثرا بوساوس الشيطان.
النوع الأول:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ... أي وجعلوا لله نصيبا مما خلق من الزرع والثمار والأنعام، وخصصوا له جزءا وقسما من الغلة والثمرة والنتاج، وجعلوا نصيبا آخر لشركاء لله المزعومين من الأوثان والأصنام.
وقالوا في النصيب الأول: هذا لِلَّهِ، نتقرب به إليه، وفي النصيب الثاني: هذا لِشُرَكائِنا أي لمعبوداتنا نتقرب به إليها.
وجعل الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها، وأطاعوها طاعة إذعان وخضوع في التحليل والتحريم مما هو من خصائص الله تعالى. وقوله: بِزَعْمِهِمْ أي بتقولهم الذي لا بينة لهم عليه ولا هدى من الله، فيزعمون أنهم يحرمونه قربة لله، والقربة يجب أن تكون خالصة له وحده، وبإذنه لأنه دين، والدين لله ومن الله وحده.
ونصيب الله كانوا يجعلونه للضيوف وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين، ونصيب آلهتهم لسدنتها وخدمها ومصالحها.
وما عينوه لشركائهم لا يصرف منه شيء إلى الوجوه التي جعلوها لله، بل يجعلونه للسدنة وخدمة الأصنام والأوثان وذبح القرابين.
وما جعلوه لله فقد يصرف للتقرب به إلى الأوثان.
ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس الحكم الذي يحكمون أو يقسمون ويصنعون، بإيثارهم المخلوق العاجز على الخالق القادر على كل شيء، فهي قسمة جائرة لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، وحينما قسموا جاروا فلم يصرفوا له حقوقه، أو جعلوا له الصنف الأضعف، كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ، سُبْحانَهُ، وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ [النحل ١٦/ ٥٧] وقال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [الزخرف ٤٣/ ١٥] وقال عز وجل:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم ٥٣/ ٢١- ٢٢].
إنهم بهذا الصنع القبيح اعتدوا على حق الله في التشريع، وأشركوا به غيره وعبدوا معه إلها آخر، وفضلوه ورجحوه عليه بجعل ما لله لشركائهم، ولم يستندوا في حكمهم على سند صحيح من عقل أو هداية من شرع إلهي.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: «إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءا، وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان، حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه شيء فيما سمي للصّمد، ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئا، جعلوه لله، جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن، قالوا: هذا فقير، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله، فسقى ما سمي للوثن، تركوه للوثن.
وكانوا يحرّمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فيجعلونه
للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى».
النوع الثاني:
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ... أي ومثل ذلك التزيين بقسمة الحرث والأنعام بين الله والأوثان، زيّن لكثير من المشركين شركاؤهم (سدنة الآلهة وخدمها) أن يقتلوا أولادهم، وقال مجاهد: شركاؤهم: شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العلية (الفقر) وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات، إما ليردوهم فيهلكوهم، وإما ليلبسوا عليهم دينهم، أي فيخلطوا عليهم دينهم.
وسبب هذا التزيين: أن الشياطين خوفوهم الفقر في الحال أو في المستقبل، كما وصف تعالى ونهى عن فعله فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء ١٧/ ٣١].
وخوفوهم العار، فقتلوا البنات خوف العار والفقر والزواج من غير كفء، وقد سنح الله تعالى عليهم بقوله: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير ٨١/ ٨].
وأوهموهم أن قتل الأولاد يقربهم إلى الله، كما فعل عبد المطلب حين نذر قتل ابنه عبد الله،
وأشار إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «أنا ابن الذبيحين».
وذكر تعالى علة تزيين المنكرات فقال: لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي زيّن هؤلاء الشياطين لهم هذه المنكرات، ومنها قتل أولادهم، ليردوا المشركين ويهلكوهم بالإغواء، ويفسدوا عليهم فطرتهم، وليخلطوا عليهم أمر دينهم الذي يدّعونه وهو دين إسماعيل وملة إبراهيم.
ولو شاء الله ما فعلوا هذا أبدا، وكل هذا واقع بمشيئة الله تعالى وإرادته
واختياره لذلك بمقتضى الحكمة التامة، قال أهل السنة: إنه يدل على أن كل ما فعله المشركون، فهو بمشيئة الله تعالى.
وقالت المعتزلة: إنه محمول على مشيئة الإلجاء، أي إن مشيئة الله تعالى أن يتركهم واختيارهم، فيأخذوا بما يرونه دون جبر ولا قهر، علما بأن الله قادر على أن يجعلهم مؤمنين، بأن يخلقهم مطبوعين على الاستعداد للإيمان كالملائكة، أو يخلق فيهم بواعث الإيمان ودواعيه، فينقادوا لدعوة الإيمان عند ظهورها، وبمجرد مجيء الرسول الذي يقنعهم بضرورة الإيمان، والإقرار بوجود الله ووحدانيته.
فاتركهم أيها الرسول وما يدينون، وما عليك إلا التبليغ.
النوع الثالث:
وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ... أي إنهم لشركهم وجاهليتهم المشوهة قسموا أنعامهم وزروعهم ثلاثة أقسام:
١- أنعام وأقوات ممنوعة الانتفاع على أحد، ومخصصة لمعبوداتهم وأوثانهم، ويقولون: هي حجر أي محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم، ويقولون: لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكل منها إلا خدم الأوثان، والرجال دون النساء. وذلك قول صادر عن زعمهم الخالي من الحجة والبرهان.
٢- أنعام حرّمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها، وهي البحائر والسوائب والحوامي، التي تقدم ذكرها وتفسيرها في سورة المائدة: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ.. [١٠٣].
٣- أنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام، ولا ينتفعون بها حتى في الحج.
وقد قسموا تلك القسمة مفترين على الله، كاذبين عليه، فهو لم يشرعه لهم، وما كان لهم أن يحللوا أو يحرموا شيئا لم يأذن الله به، كما قال تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس ١٠/ ٥٩].
والله سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه بما كانوا يفترون. وهذا وعيد وتهديد لهم.
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من التحليل والتحريم بزعمهم وسخفهم فقال:
وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ.. أي إن أجنة وألبان هذه البحائر (أي المشقوقة الآذان) والسوائب المسيّبة للآلهة فلا يتعرض لها أحد: هو حلال خاص برجالنا، ومحرم على إناثنا، فلبنها للذكور ومحرم على الإناث، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث، وإذا ولدت أنثى تركت للنتاج فلم تذبح، وإذا كان المولود ميتا اشترك فيه الذكور والإناث.
سيجزيهم جزاء وصفهم أي قولهم الكذب في ذلك، كما قال تعالى:
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل ١٦/ ١١٦].
ثم ندد الله بوأد البنات وتحريم ما أحل الله فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ... أي خسر الذين قتلوا أولادهم، فوأدوا البنات خسرانا مبينا، وحرموا ما رزقهم الله من الطيبات.
إنهم قتلوا أولادهم سفها أي خفة مذمومة، وحماقة مفضوحة، خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر، وجهلا بما ينفع ويضر ويحسن ويقبح، ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح، وحرموا الطيبات افتراء وكذبا على الله، ولقد ضلوا ضلالا مبينا لعدم توصلهم إلى مصالح الدنيا والدين، ولم يكونوا مهتدين إلى شيء
من الحق والصواب، وفائدة قوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لبيان أنه لم يحصل منهم اهتداء قط.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: «إذا سرّك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً إلى قوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: هذا صنع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السّباء والفاقة، ويغذو كلبه.
فقه الحياة أو الأحكام:
تلك شرائع العرب في جاهليتهم الجهلاء، مصدرها وهم وسخف، وقصور عقل، وهوى فاسد، روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص: إنكم على كمال عقولكم، ووفور أحلامكم، عبدتم الحجر! فقال عمرو: تلك عقول كادها باريها.
هذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلهم أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فبئس الحكم حكمهم.
قال ابن زيد: كانوا إذا ذبحوا ما الله، ذكروا عليه اسم الأوثان، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله.
إنهم لم يعدلوا في قسمتهم الزروع والثمار والأنعام، فما جعلوه لله بزعمهم صرفوه لأوثانهم، وما جعلوه لأوثانهم قدموه لها.
وقد ارتكبوا ظلما عظيما بوأد البنات: وهو دفن البنت حية مخافة السّباء والحاجة، ولعدم ما حرمن من النصرة، أي أنهم لا يستطيعون الغزو والقتال.
وشركاؤهم وهم الذين كانوا يخدمون الأوثان، أو الغواة من الناس أو
الشياطين هم الذين زينوا لهم قتل أولادهم ليهلكوهم، وليخلطوا عليهم دينهم الذي ارتضى لهم، أي يأمرونهم بالباطل ويشككونهم في دينهم. وكانوا على دين إسماعيل.
وقد صنفوا أموالهم وأقواتهم ثلاثة أصناف، صنف لمعبوداتهم وأوثانهم، وصنف حرّمت ظهورها، وصنف لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح، افتراء وكذبا على الله بما لم يشرعه، وسيلقون جزاء افترائهم.
وخصصوا ألبان الأنعام وذكورها لذكورهم الرجال، وحرموها على الإناث، وجعلوا الميتة شركة بين الذكور والإناث، وتركوا الأنثى للنتاج، سيجزيهم الله وصفهم، أي كذبهم وافتراءهم، أي يعذبهم على ذلك.
وكان أشد أنواع عاداتهم وأحكامهم ظلما وجرما قتلهم الأولاد أي البنات وتحريم ما أحل الله، بدليل أنه كرر الله توبيخهم عليه في هذه الآيات، وحكم عليهم بسبعة أمور «١» :
١- الخسران: لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد.
٢- السفاهة: وهي الخفة المذمومة لأن قتل الولد لخوف الفقر، والفقر وإن كان ضررا، إلا أن القتل أعظم منه ضررا، والفقر موهوم والقتل ضرر حتمي.
٣- الجهل وعدم العلم: لأن هذه السفاهة تولدت من عدم العلم، ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح.
٤- تحريم ما أحل الله لهم، وهو من أعظم أنواع الحماقة، لأنه يمنع نفسه تلك المنافع والطيبات.
٥- الافتراء على الله: ومن المعلوم أن الجرأة على الله والافتراء عليه أعظم الذنوب والكبائر.
٦- الضلال عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا.
٧- إنهم ما كانوا مهتدين، وهو وصف لازم دائم لهم.
روي أن رجلا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «مالك تكون محزونا؟» فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفره الله لي، وإن أسلمت! فقال له: «أخبرني عن ذنبك» فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت، فتشفّعت إليّ امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها فدخلتني الحميّة ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرّت بذلك وزينتها بالثياب والحلّي، وأخذت على المواثيق بألا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر، فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: أيش تريد أن تفعل بي! فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليّ الحميّة، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمّي فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني.
فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وقال: لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك «١».