آيات من القرآن الكريم

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ

ثم أبان الله تعالى أمرا اجتماعيّا مهمّا: وهو أنه مثل تولّي الجن والإنس بعضهم لبعض، نولّي الظالمين بعضهم ببعض، بأن نجعل بعضهم أنصار بعض، بمقتضى التقدير والسّنة الكونية، بسبب ما كانوا يكسبون من أعمال الظلم المشتركة بينهم، فكل فريق يتولى ويرعى شبيهه في الخلق والعمل وينصره على غيره، قال ابن عباس:
«إذا رضي الله على قوم ولّى أمرهم خيارهم، وإذا سخط على قوم ولىّ أمرهم شرارهم». وهذا تهديد عامّ لكل ظالم ظلما اجتماعيّا عامّا أو خاصّا. والتعاون بين الفئات المتشابهة في سلوكها ظاهرة قائمة في المجتمعات، سواء فئات المؤمنين الصلحاء، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التّوبة: ٩/ ٧١]. أو فئات الكافرين الأشقياء، كما قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الأنفال: ٨/ ٧٣] أي أعوانهم ونصراؤهم.
تقريع الظّلمة على كفرهم
إن العدل الإلهي أمر مطلق شامل جميع أحوال الناس في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يرسل الله الإنذارات المتوالية من الكتب والرّسل لتبليغ الأحكام وشرائع الله، والتحذير من مستقبل الحساب والجزاء الأخروي. وفي الآخرة لا يجد الظّلمة مناصا من الاعتراف بتقصيرهم وامتناعهم من الإيمان واقترافهم السيئات. ويظهر العدل في الآخرة على أتم وجه وأحكم مظهر، حيث يوفّى كل إنسان بما عمل من خير أو شرّ. قال الله تعالى موضّحا أصول العدل وطرائق التزامه:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
«١»

(١) خدعتهم.

صفحة رقم 608

[الأنعام: ٦/ ١٣٠- ١٣٢].
هذه الآيات تقريع للظالمين، وتهديد شديد للكافرين من الجنّ والإنس، وبيان حالهم يوم القيامة، حيث يسألهم ربّهم، وهو أعلم بما فعلوا، قائلا: هل بلّغتكم الرّسل رسالات الله؟ يخبرونكم بآيات الإيمان والأحكام والآداب، وينذرونكم لقاء يوم الحشر الرهيب، وما فيه من الحساب والجزاء لمن يكفر بها ويجحدها؟! فأجابوا عن السؤال، وقالوا يوم القيامة: أقررنا بأن الرّسل قد بلّغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم يوم القيامة كائن لا محالة، ونظير هذه الآية: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) [الملك:
٦٧/ ٩]. وهذا إقرار منهم بالكفر والتقصير.
وخدعتهم الحياة الدنيا بزينتها ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحبّ السلطة ورفعة الجاه، ففرّطوا في حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرّسل، وإنكار المعجزات، كبرا وعنادا.
وشهدوا على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين في الدنيا، بما جاءتهم به الرّسل عليهم السّلام.
ذلك الإرسال للرّسل وإنذارهم الناس سلفا، وإنزال الكتب الإلهية في عالم الحياة الحاضرة، بسبب أن من سنّة الله ألا يؤاخذ أحد بظلمه إذا لم تبلغه الدعوة الإلهية من طريق صحيح، وألا تهلك الأمم والشعوب بعذاب الاستئصال وهم غافلون عما يجب عليهم، بل لا بدّ من إرسال الرّسل إليهم، كما قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٣٥/ ٢٤]، وقال سبحانه: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٧/ ١٥]، فالله لا يظلم أحدا من خلقه، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فمن

صفحة رقم 609

أطاع الله وآمن به وعمل صالحا، استحقّ الثواب والمكافأة الحسنة، ومن جحد وكفر وعمل شرّا، استحقّ العقاب والجزاء الشديد. وكل ما نزل وينزل بالمسلمين اليوم إنما هو لسوء أعمالهم، وتقصيرهم في تطبيق أمور دينهم. ولقد أخطأ كل الخطأ من نسب التّخلف للدين، وترك أمر الناس الذين أصبحوا بلا دنيا ولا دين.
وما الدين إلا دافع لكل فضيلة وتقدّم، ومانع من كل رذيلة وتخلّف، ولا نجد مثل الإسلام يرغّب في الطاعة والعمل والعطاء، ويرهّب من العصيان والخمول والأخذ والاعتماد على جهود الآخرين لهذا جعل القرآن تفاوتا في المنازل والدّرجات بحسب تفاوت الأعمال، فذكر أن لكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله، يبلّغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
والله مطّلع رقيب على كل الأعمال، فما من عمل للعباد إلا يعلمه، وهو محصيه ومثبته لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائه إياهم، ومعادهم إليه.
وهذا دليل على أن مناط السعادة والشقاء: هو عمل الإنسان وإرادته، وكسبه واختياره، وإن كان لا يقع شيء في ملك الله إلا بإرادته، وإلا كان ذلك قهرا، يتنافى مع ملك المالك وهو الله سبحانه، تنزه الله عن كل نقص، وتبرأ من كل عيب، والله مع المحسنين أعمالهم، المقبلين على ربّهم.
تهديد كفّار قريش وإنذارهم
لم يترك الله تعالى في قرآنه وسيلة لدفع الناس إلى الإيمان وترك الكفر إلا ذكرها، ولم يهمل طريقة إصلاحية إلا سلكها، سواء بالترغيب تارة، والترهيب تارة أخرى، وهذا الحرص التربوي رحمة من الله بعباده، وفضل وإحسان لا نجد له نظيرا عند علماء التربية أو الحكماء والفلاسفة، والسبب في ذلك أن تربية القرآن غير مشوبة

صفحة رقم 610
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر - دمشق
سنة النشر
1422
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية