
١٣٠ - قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ الآية. قال أهل اللغة: (المَعْشَر: كل جماعة أمرهم واحد، والجميع: المعَاشِر) (١). وقوله تعالى: ﴿رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ اختلفوا (٢) هل كان من الجن رسول أم لا؟ فالأكثرون (٣) على أنه لم يكن من الجن رسول، وإنما كانت الرسل من بني آدم.
وقوله: ﴿رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ أراد من أحدكم وهو الإنس فحذف المضاف، كقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ﴾ [الرحمن: ٢٢] أي: من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب، وجاز ذلك؛ لأن ذكرهما قد جُمع في قوله (٤): ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ [الرحمن: ١٩]، وهذا جائز في كل ما اتفق في أصله، كما
وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٤٧، و"الصحاح" ٢/ ٧٤٧، و"المجمل" ٣/ ٦٧٠، و"المفردات" ص ٥٦٧ (عشر).
(٢) في (ش): (واختلفوا).
(٣) ذكره عن الأكثر الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٩٥، والخازن ٢/ ١٨٤.
(٤) قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في "أضواء البيان" ٢/ ٢١١: (هذا التوجيه في آية الرحمن غلط كبير لا يجوز القول به؛ لأنه مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى؛ لأن الله ذكر البحرين الملح والعذب بقوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [فاطر: ١٢]، ثم صرح باستخراج اللؤلؤ والمحرجان منهما جميعًا بقوله: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [فاطر: ١٢]، والحلية المذكورة في اللؤلؤ والمرجان، فقصره على الملح مناقض للآية صريحًا كما ترى). اهـ.

اتفق الجن مع الإنس في باب التمييز، فلما ذكرا (١) معًا جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى واحد.
وهذا قول الفراء (٢)، والزجاج (٣) ومذهب أكثر أهل (٤) العلم، وعليه دل كلام ابن عباس؛ لأنه قال: (يريد: أنبياء من جنسكم ولم يكن من جنس الجن أنبياء (٥) وإذا لم يكن من الجن أنبياء (٦) ورسل، فكيف قال لهم مع الإنس: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ﴾؟ قال الكلبي: (كانت الرسل يبعثون إلى الجن والإنس) (٧)، فعلى هذا قد بعث الرسل إلى الجن، ولكن لم تكن (٨) الرسل من الجن، وتأويل (منكم) ما ذكرنا.
وقال آخرون: (الرسل كانت من الإنس، ولكن الله تعالى كان يسبّب قومًا من الجن ليسمعوا كلام الرسل، ويأتوا قومهم من الجن بما سمعوا وينذرونهم، كما قال الله تعالى لمحمد - ﷺ -: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ [الأحقاف: ٢٩] وهذا مذهب مجاهد قال: (الرسل من الإنس والنذر
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٤، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٩٢.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٢، وكلام الواحدي أقرب إلى نص الزجاج.
(٤) ذكر الخازن في "تفسيره" ٢/ ١٨٤: (أن هذا مذهب جمهور أهل العلم). وانظر: "تفسير الطبري" ١٢/ ١٢، والماوردي ٢/ ١٧٠، وذكره عن الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٩٥.
(٥) ذكره الخازن في "تفسيره" ٢/ ١٨٤ عن الواحدي عن ابن عباس.
(٦) لفظ: (أنبياء) ساقط من (أ).
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٦١، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ أ، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٠.
(٨) في (ش): (لم يكن).

من الجن) (١)، ونحو ذلك قال ابن جريج (٢) وأبو عبيد (٣): (هم الذين استمعوا القرآن فأبلغوه قومهم)، وعلى هذا أولئك (٤) الذين استمعوا (٥) وذهبوا إلى الجن فأنذروا لم يفعلوا ذلك بنص الله تعالى على إرسالهم، ولكن يجوز أن يضاف ذلك إلى الله فيقال: هم رسل الله، كما سمّى الله تعالى رسُل عيسى (٦) رسله فقال: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ﴾ [يس: ١٤].
وقال الضحاك: (من الجن رسل كما من الإنس رسل) (٧) والآية تدل على (٨) ذلك، والقول هو الأول، وهو ما ذكرنا أن رسل الجن لم يكونوا مرسلين بنص الله تعالى وإنما كانوا نذرًا على الوجه الذي بيّنا (٩).
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٦، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٦.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في (أ): (وعلى هذا ؤلئك)، وهو تحريف.
(٥) في (أ): (استمتعوا)، وهو تحريف.
(٦) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٩٥. وظاهر القرآن -وهو اختيار الجمهور ومنهم ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٩٨ - أنهم رسل الله بعثهم إلى أهل القرية. قال ابن الجوزي في "تفسيره" ٧/ ١١: (هذا هو ظاهر القرآن والمروي عن ابن عباس وكعب ووهب) اهـ.
(٧) أخرجه الطبري ٨/ ٣٦، بسند جيد، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٨٩.
(٨) ذكره عن الضحاك الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٧٠، وابن الجوزي ٣/ ١٢٥، وقالا: (وهو ظاهر الكلام).
(٩) وهذا هو الظاهر، وهو قول جمهور السلف والخلف، كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" ٢/ ١٩٨: وساق عدة أدلة من الكتاب والسنة على أن الرسل من الإنس فقط، ولم يكن في الجن رسل منهم. وهو اختيار شيخ الإسلام في رحمه الله تعالى في "الفتاوى" ١٦/ ١٩٢، وقال في ٤/ ٢٣٤: (وقيل: الرسل من الإنس، والجن فيهم النذر، وهذا أشهر.) اهـ.

١٣٠ - وقوله تعالى: ﴿قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾. يقول: شهدنا أنهم قد بلغوا، يقول الله تعالى: (وغرتهم (١) الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين). قال مقاتل: (حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك والكفر في الدنيا) (٢).
١٣١ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ﴾ الآية. قال الزجاج: (ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذب بها؛ لأنه لم يكن مهلك القرى بظلم) (٣)، فعلى هذا الإشارة وقعت إلى العقاب الذي في قوله: ﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ﴾ [الأنعام: ١٢٨] وإلى إتيان الرسل في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] وموضع ﴿ذَلِكَ﴾ رفع الابتداء على معنى: ذلك الأمر، أي: العقوبة بعد تكذيب الرسل، ويجوز أن يكون موضع (ذلك) نصبًا على معنى: فعل ذلك، وهذا معنى قول الفراء (٤) وسيبويه (٥) والزجاج (٦).
وقوله تعالى: ﴿أَنْ لَمْ يَكُنْ﴾ (أن) هاهنا هي المخففة من الثقيلة ويقدر معها الخافض وإضمار الهاء على تقدير: لأنه لم يكن، وهي التي في قول الأعشى:
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٩.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٣.
(٤) "معاني الفراء" ٢/ ٣٥٥، ومثله ذكر الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٧.
(٥) لم أقف عليه في الكتاب، وقد ذكر الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٩٣، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٨٠: (عن سيبويه أنه في موضع رفع بمعنى: الأمر ذلك؛ لأن ربك لم يكن مهلك القرى بظلم)، ولم أجد من ذكر عنه وجه النصب.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٢ - ٢٩٣.

في فِتْيِةٍ كَسْيوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا | أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَينْتَعِلُ (١) |
وقال الزجاج: (أي: لا يهلكهم حتى يبعث إليهم الرسل كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] (٣)، وهذا قول جميع المفسرين (٤) والظلم على هذا ظلمهم الذي هو ذنوبهم ومعاصيهم.
وقال الفراء: (يجوز أن يكون المعنى: لم يكن ليهلكهم [بظلم منه وهم غافلون، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ (٥)] وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧] أي بظلم منه) (٦).
والشاهد إضمار اسم أن المخففة والتقدير: أنه هالك، وعجز البيت في الديوان:
أَنْ لَيْسَ يَدْفَعُ عَنْ ذِي الحِيلَةِ الحِيلُ
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٠، و"الخازن" ٢/ ١٨٥.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٣.
(٤) انظر: الطبري ٨/ ٣٧، والسمرقندي ١/ ٥١٤، والماوردي ٢/ ١٧٢، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٨٣ - ١٨٤.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ش) وملحق بالهامش.
(٦) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٥، وفيه قال: (وقوله: ﴿مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم وهم غافلون لما يأتيهم رسول ولا =