
ما تعلمون به ذلك، فكيف تحرمون ما ذكر اسم اللَّه عليه، ثم أمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه، وعاتب من ترك الأكل مما ذكر اسم اللَّه عليه بقوله: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ... (١١٩) ولم يبين بم وبأي وجه بالذبح أو بغيره؟ وكذلك قوله: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)، ولم يبين من أي وجه، لكن الناس اتفقوا على صرف ذلك إلى الذبح، فكان الذبح مضمرا فيه؛ كأنه قال: كلوا مما ذبح بذكر اسم اللَّه عليه، وما لكم ألا تأكلوا مما ذبح بذكر اسم اللَّه عليه.
ثم لا يخلو اتفاقهم بمعرفة ذلك: إما أن عرفوا ذلك بالسماع من رسول اللَّه، أو عرفوا ذلك بنوازل الأحكام؛ إذ ليس في الآية بيانُ ذلك.
فكيفَما كان، ففيه دلالة نقض قول من يقول بأن من عرف نوازل الأحكام أو كان عنده رواية، فتركَ روايته، يفشَق؛ لأنه لما لم يذكر هاهنا النوازل ولا السماع دل أنه لا يفسق؛ إذ كان قوله: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) ذكر لمكان قول الثنوية؛ لأنهم

يحرمون الذبائح ويقولون: ليس من الحكمة إيلام من لا ذنب له. أو ذكر لمكان قول من يقول: إنكم أكلتم ما تذبحون بأيديكم ولا تأكلون ما تولى اللَّه قتله.
صفحة رقم 232
ثم قوله: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)، وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أباح - عَزَّ وَجَلَّ - من الأنعام ما ذكر اسم اللَّه عليه، وحظر ما لم يذكر اسم اللَّه عليه، ونهى عن أكله بقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وبقوله: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)، جعل المهَلَّ لغير اللَّه ميتةً حراما، وجعل المذكور اسم اللَّه عليه ذكيًّا حلالا؛ فدل أن التسمية شرطٌ في أكل الذبيحة؛
صفحة رقم 234
لأنه لو لم تكن شرطا في حل الذبيحة لم يكن الْمُهلُّ به لغير اسم اللَّه ميتة حراما، ولأنه سمى ما لم يذكر اسم اللَّه عليه فسقا، والفسقُ هو الخروج عن أمر اللَّه؛ كقوله: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، أي: خرج؛ فدل أن التسمية شرط فيها.
ولهذا يحل لنا ذبائح أهل الكتاب إذا سمعناهم يذكرون اسم اللَّه عليه، وإن كانوا ما يذكرون في الحقيقة غير اللَّه؛ لأنهم لا يعرفون اللَّه حقيقة، ولكن إذا ذكروا اسم اللَّه عليه تحل لنا.
ولا يحل ذبائح أهل الشرك؛ لأن أهل الشرك لا يرون الذبائح رأسًا؛ يذهبون مذهب الزنادقة، والزنادقة لا يرون الذبائح؛ يقولون لنا: إنكم تقولون: إن ربكم رحيم حكيم، وليس من الحكمة والرحمة أن يأمر أحدًا بذبح آخر ويقتله؛ فيأكلون الميتة ولا يرون أكل الذبيحة، ويقولون: ليس هذا أمرَ مَن كان موصوفًا بالرحمة أو بالحكمة.
لكنا نقول: إن كراهة الذبح والنفور عنه نفور طبع وكراهته كراهة طبع لا كراهة العقل.
فما يكرهه الطبع وينفر عنه يجوز أن يباح لما يعقب نفعًا في المتعقب نحو ما يباح الافتصاد والحجامة والتداوي بأدوية كريهة لنفع يعقب ويتأمل، وإن كان الطبع يكرهه وينفر عنه وليس هو مما يقبحه العقل إنما لا يجوز أن يباح بفعل ويؤمر به مما يقبحه العقل ويكرهه.

وأما كراهة الطبع ونفوره فإنه يجوز أن يباح لما ذكرنا ويرتفع ذلك بالعادة؛ فعلى ذلك الذبح كراهته كراهة الطبع لا كراهة العقل ونفوره.
والثاني: أن هذه الأشياء كلها إنما خلقت لنا وسخرت لمنافعنا لم تخلق لأنفسها، فإذا كان كذلك يحل لنا ذبحها والتناول منها بأمر الذي أنشأها لنا وسخرها لنا.
وبعد، فإن من مذهبهم أن العالم إنما كان بامتزاج النور والظلمة، والروحُ من النوراني والجسم من الظلماني ففي الذبح استخراج الروح ورده إلى أصله؛ إذ من قولهم: إنه يرجع كل إلى أصله في العاقبة، على ما كان في الأول.
وأما الجواب عما قاله أهل الشرك: " أكلتم ما ذبحتم أنتم وتركتم ذبيحة اللَّه " فوجهان:
أحدهما: ما قاله أهل التأويل: أن الخلق له وله الحكم عليهم؛ فأحل لهم هذا وحرم عليهم هذا.
والثاني: تعبدنا بذكر اسمه عليها؛ فصار فيما ذكر اسم اللَّه إقامة عبادة تعبدنا بها، وفيما لم يذكر لم يكن عبادة؛ لذلك حل لنا ما كان في ذلك إقامة عبادة، ولم يحل لنا ما لم يكن فيها إقامة عبادة واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) هو في الظاهر أمر، لكن الأمر الذي يرجع إلى شهوات النفس ولذاتها فإنه يخرج على وجهين:
إما أن يخرج على بيان ما يحل، أو النهي عما لا يحل؛ فهاهنا خرج على بيان ما يحل وتحريم ما لا يحل؛ كأنه قال: كلوا مما ذكر اسم اللَّه عليه، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللَّه عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).

هو صلة قوله: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي: ما لكم ألا تأكلوا وقد بيِّن لكم ما حرم عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير.
(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ) لأن أهل الشرك والزنادقة كانوا لا يرون أكل الذبيح، ويأكلون الميتة والدم فلهم خرج الخطاب (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وقد بين لكم ما حرم عليكم، وهو الميتة والدم: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ).
قال الحسن: له أن يتناول من الميتة حتى يشبع؛ لأنه أحل له التناول، وعلى قولنا: لا يحل له الشبع؛ لأنه إنما أحل عند الاضطرار أوهو غير مضطر إلى

الشبع.
ويقول الحسن: لو ترك التناول منها حتى هلك لا شيء عليه؛ يقول: لأنه إنما أحلت له رخصة ورحمة، وليس على من لم يعلم بالرخص إثم، ولكن عندنا أنها أبيحت في حال الاضطرار؛ فإذا ترك التناول منها حتى هلك صار ملقيا نفسه في التهلكة، وقد حرم اللَّه علينا أن نهلك أنفسنا أو نلقيها في التهلكة بقوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، ولا فرق بين ترك التناول من الميتة - وقد أحل لنا التناول منها - حتى مات وبين ترك التناول من غيرها من الأطعمة المحللة، أو يأتي بأسباب إتلاف النفس؛ فهما سواء.
ويقول -أيضًا-: له أن يتناول عند الاضطرار من مال غيره بلا بدل، وإذا نهى صاحبه عن ذلك يضمن بدل ذلك بالغًا ما بلغ فهذا بعيد.
لا يجوز أن يتناول من مال غيره ولا يلزمه البدل، وإذا نهاه عن ذلك يلزمه البدل؛ لأن

من كان له حق التناول من مال آخر بغير بدل، ثم إذا نهى أو منع يلزمه البدل دل أنه
صفحة رقم 242