
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾، الهاء تعود إلى إيحاء القول بالغرور، والمدلول عليه بقوله ﴿يُوحِي﴾ والفعل يدل على المصدر (١)، قال الزجاج: (أي: لو شاء لمنع الشياطين من الوسوسة للإنس والجن، ولكن الله عز وجل يمتحن بما يعلم أنه الأجزل في الثواب) (٢) [وقوله تعالى] (٣): ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: ما زين لهم إبليس وغرّهم به) (٤).
١١٣ - وقوله تعالى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ الآية. الصغو في اللغة معناه: المَيْل، صغى إلى كذا يصغى إذا مال إليه (٥). أبو عبيد عن الكسائي: (صَغَوت أَصْغُو، وصغيت أصْغَى [ثم وصغيت أصغِي] (٦) وهو أكثر الثلاث) (٧)، ابن السكيت: (صَغَيْتُ إلى الشيء،
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٤، وفيه: (يمتحن ما يعلم أنه الأبلغ في الحكمة، والأجزل في الثواب والأصلح للعباد) ا. هـ. وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٣، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٧٧.
(٣) في (ش): وقوله تعالى: (لله هم وما يفترون)، وهو تحريف ظاهر.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٣، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٥٦، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٠٧.
(٥) انظر: "العين" ٤/ ٤٣٢، و"الجمهرة" ٢/ ٨٩٠، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٠٠، و"المجمل" ٢/ ٥٣٤، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٨٩، و"المفردات" ص ٤٨٥ (صغا).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٧) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢٠، وفيه: (أبو عبيد عن الكسائىِ: صَغَوْتُ بالفتح، وصَغَيْتُ. وقال شمر: صَغَوت، وصغَيت بالفتح، وصغيت بكسر العين، وأكثره صغيت بالكسر) ا. هـ.
ولعل الواحدي جمع بين القولين.

أصْغى صِغيًا إذا ملت إليه، وصَغَوت أصغُو صُغُوًّا) (١)، الأصمعي (وصَغا) (٢)، وزاد الفراء: (صُغيًّا مشدّدًا وصُغُوًّا) (٣)، أبو زيد (٤): (يقال: صَغْوهُ معه، وصِغْوُهُ وصَغَاهُ، وصَاغِية الرجل الذين يميلون إليه ويغشونه، وعين صَغْواء مائلة، قال الأعشى (٥):
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢١، وفيه: (صَغَا يَصْغو صَغْوًا وصَغًا) بالفتح.
(٣) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ١١٩، وهو ليس في معاني الفراء، ولعله من كتاب المصادر المفقود، وصُغيا بالضم، وكسر العين، وفتح الياء المشددة، وصغوا بالضم وفتح الواو المشددة.
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢١، وفيه: (صَغْوه وصَغاه وصِغْوه معه) فقط، والباقي لابن السكيت، وصَاغية بكسر الغين، وصَغْواء بفتح الصاد وسكون الغين.
والخلاصة: أن الصَّغا مادة تدل على الميل، يقال: صغوت بالواو وفتح الغين، وصغيت بالياء وكسر الغين وفتحها، فاللام واو أو ياء، ومع الياء تكسر عين الماضي وتفتح، ومضارع الأفعال الثلاثة يصغى بفتح الغين، وحكى صغوت أصغو بالضم، ومصدر الأول: صَغْو، والثاني: صُغِيٌّ بكسر الغين، والثالث: صغا بالفتح، وحكى في مصدر صغا بالفتح يصغو صغا بالفتح، فهو ليس مختصًا بكونه مصدرًا لصغي بالكسر، وحكى صِغِيًّا بكسر الغين، وفتح الياء المشددة، وصغوا بضم الغين وفتح الواو المشددة. انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٤، والقرطبي ٧/ ٦٩، و"البحر" ٤/ ٢٠٥، و"الدر المصون" ٥/ ١١٩.
(٥) ديوان الأعشى: ميمون بن قيس ص ١٨٧، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص ٣٢٧، و"تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢٠، والثعلبي ص ١٨٣/ أ، و"اللسان" ٤/ ٢٤٥٤ مادة (صغا)، و"الدر المصون" ٥/ ١١٩، وهو يصف الناقة، وصغواء: مائلة، والمؤق بالضم: طرف العين مما يلي الأنف. انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٢٠ مادة (مأق)، والقطيع، بفتح القاف، وكسر الطاء: السوط يقطع من جلد، ونحوه. والقطيع المحرم. السوط الذي لم يمرن ويُليَّن بعد. انظر: "اللسان" (قطع) ٦/ ٣٦٧٨.

ترَى عَيْنَها صَغْواءَ في جَنْبِ مُؤقِهَا | ترَاقِبُ كَفِّي والقَطِيعَ المحَرَّمَا) |
(٢) أخرجه الطبري ٨/ ٧ بسند جيد بلفظ: (تميل إليه قلوب الكفار) ا. هـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٤.
(٣) لفظ (ابن زيد) ساقط من (أ) والأثر أخرجه الطبري ٨/ ٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٣، بسند جيد عنه، بلفظ: (وليهووا ذلك، يقول الرجل للمرأة: صغيت إليها: هَوِيتها) اهـ.
(٤) هو قول الأكثر. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٨٥، و"مجاز القرآن" ١/ ٢٠٥، و"غريب القرآن" ص ١٤٢، والطبري ٨/ ٧، والسمرقندي ١/ ٥٠٨، والماوردي ٢/ ١٥٩.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٣، ابن الجوزي ٣/ ١٠٩.
(٦) هذا ظاهر كلام الطبري ٨/ ٤، والقرطبي ٧/ ٦٩، ورجحه الرازي ١٣/ ١٥٧، وأكثرهم على أنها لام كي الجارة، وهي معطوفة على الغرور، أي: للغرور، ولأن تصغى. قال ابن عطية ٥/ ٣٢٤ - ٣٢٥: (اللام في الأفعال الثالثة لام كي معطوفة على (غرورًا) أو متعلقة بفعل مؤخر تقديره: فعلوا ذلك أو جعلنا ذلك، فهي لام صيرورة، قاله الزجاج: ولا يحتمل أن تكون لام الأمر وضمنها الوعيد) ا. هـ. ملخصًا، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٤ - ١٧٥: (اللام على بابها للتعليل وإن كانت تعليلًا لفعل العدو، وهو ايحاء بعضهم إلى بعض فظاهر، =

(اللام متعلقة بقوله ﴿يُوحِي﴾: [الأنعام: ١١٢] وتقديره: يوحي بعضهم إلى بعض [ليغروهم] (١) ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾)، والكناية في (إليه) تعود إلى ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾ يقال: اقترف أي: اكتسب (٣). الليث (٤): (اقترف ذنبًا، أي: أتاه وفعله). ابن الأنباري (٥): (قَرَف واقْتَرَف إذا كسب،
(١) في (أ): (لتغروهم).
(٢) انظر: "الدر المصون" ٥/ ١١٨.
(٣) الاقتراف بسكون القاف، وكسر التاء وفتح الراء أصله قَشْرُ اللحاء والجلدة عن الجرح، ثم استعير للاكتساب حسنًا كان أو سيئًا، إلا أنه في السوء أغلب. انظر: "الجمهرة" ٢/ ٧٨٦، و"الصحاح" ٤/ ١٤١٤، و"المجمل" ٣/ ٧٤٨، و"معجم مقاييس اللغة" ٥/ ٧٣، و"المفردات" ص ٦٦٧، و"اللسان" ٦/ ٣٦٠٠، و"عمدة الحفاظ" ص ٤٥٣ مادة (قرف).
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٤١. وانظر: "العين" ٥/ ١٤٦.
(٥) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ١٢٢، وفي "الزاهر" ١/ ٤٤٦، قال في معنى الآية: (أي: وليكتسبوا وليلصقوا بأنفسهم) ا. هـ. ثم أنشد البيت.

وأنشد (١):
وإِنِّي لآتٍ مَا أَتَيْتُ وإنَّنِي | لِمَا اقْتَرفَتْ نَفْسِي عليَّ لَرَاهِبُ |
وقال الزجاج: (وليقترفوا) (أي: ليختلقوا وليكذبوا) (٤)، وهو معنى قول عطاء (٥): (ليخترقوا في القرآن مثل قولهم: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣]).
قال مقاتل: ﴿وَلِتَصْغَى﴾: (ولتميل إلى ذلك الزخرف ولغرور قلوب الذين لا يصدقون بالبعث، ﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾: ليحبوه، ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾ ليعملوا ما هم عاملون) (٦)، وهذا الآية دليل على تكذيب القدرية، إذ قال الله تعالى:
(٢) أخرجه الطبري ٨/ ٨ بسند جيد، وهو في "تنوير المقباس" ٢/ ٥٣، و"الدر المنثور" ٣/ ٧٥، وهو في مسائل نافع بن الأزرق ص ١٦١ مع ذكر الشاهد للبيد.
(٣) ذكره القرطبي ٧/ ٧٠، عن ابن عباس والسدي وابن زيد، وأخرج الطبري ٨/ ٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٣، ١٣٧٤، بسند جيد عن ابن زيد والسدي قالا: (ليعملوا ما هم عاملون) ا. هـ.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٥، وفيه ذكر القول الأول ثم ذكر هذا، وفي "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٥، قال: (مجازه التهمة والادعاء) ا. هـ. وفي "غريب القرآن" لليزيدي قال: (يدعون الكذب) وفي تفسير "غريب القرآن" ص ١٥٨، و"تفسير المشكل" ص ٧٩: (أي: ليكتسبوا ويدعوا) ا. هـ. وذكر هذا القول الماوردي ٢/ ١٥٩، وقال: (هذا قول محتمل) ا. هـ.
(٥) لم أقف عليه. وقوله: (وليخترقوا) التَّخرُّق لغة في التخلُّق من الكذب وخَرَقَ الكذب وتَخَرَّقه اختلقه وافتعله وافتراه. انظر: "اللسان" ٢/ ١١٤٢ (خرق).
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٥.