آيات من القرآن الكريم

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ مُعْجِزَاتٍ قَوِيَّةً وَحَلَفُوا أَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ لَآمَنُوا فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ وَإِنْ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِي الْحِكْمَةِ إِجَابَتُهُمْ إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِنُصْرَةِ الِاعْتِزَالِ.
الْحَكَمُ الْأَوَّلُ:
أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ لُطْفٌ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ لَفَعَلَهُ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْجَوَابِ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَعَالَى لَا يُجِيبُهُمْ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُ تَرْكِ الْإِجَابَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ مُنْتَظِمًا مُسْتَقِيمًا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا هُوَ فِي مَقْدُورِهِ مِنَ الْأَلْطَافِ وَالْحِكْمَةِ.
الْحُكْمُ الثَّانِي:
أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ لَوْ كَانَ لِإِظْهَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ أَثَرٌ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَلَى قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ عِنْدَهُمُ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا خَلَقَهُ حَصَلَ وَإِذَا لَمْ يخلقه لم يحصل فلم يكن لفعل الألطاف اثر في حمل المكلف على الطاعات.
وأقول هذا الذي قاله القاضي غير لازم. اما الاول: فلان القوم قالوا: لو جئتنا يا محمد بآية لآمنا بك فهذا الكلام في الحقيقة مشتمل على مقدمتين: إحداهما: انك لو جئتنا بهذه المعجزات لآمنا بك. والثانية: انه متى كان الأمر كذلك وجب عليك ان تأتينا بها والله تعالى كذبهم في المقام الاول وبين انه تعالى وان أظهرها لهم فهم لا يؤمنون ولم يتعرض البتة للمقام الثاني وَلَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ بَاقٍ.
فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَ إِظْهَارِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ فَلِمَ لَمْ يَجِبْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارُهَا؟ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ قَبْلَ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ اللُّطْفَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ هَذَا الْمَطْلُوبُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ اللُّطْفِ فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَهُ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذَا كَانَ الْكُلُّ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْأَلْطَافِ أَثَرٌ فِيهِ فَنَقُولُ: الَّذِي نَقُولُ بِهِ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفِعْلِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي وَالْعِلْمُ بِحُصُولِ هَذَا اللُّطْفِ أَحَدُ أَجْزَاءِ الدَّاعِي وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. فَيَكُونُ لهذا اللطف اثر في حصول الفعل.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٠]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
هَذَا أَيْضًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَالتَّقَلُّبَ وَالْقَلْبَ وَاحِدٌ وَهُوَ تَحْوِيلُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ وَمَعْنَى تَقْلِيبِ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ الْقَاهِرَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَعَرَفُوا كَيْفِيَّةَ دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَلَّبَ قُلُوبَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ بقوا

صفحة رقم 114

عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الْآيَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ لَوْ جَاءَتْهُمْ لَمَا آمَنُوا بِهَا وَلَمَا انْتَفَعُوا بِظُهُورِهَا الْبَتَّةَ.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الْمُرَادُ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي جَهَنَّمَ عَلَى لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يأمنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا.
وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ بِأَنَّا لَا نَفْعَلُ بِهِمْ مَا نَفْعَلُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَلْطَافِ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِّ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ.
وَأَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّ الْمُرَادَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَتْ فَلَا تَجِدُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا آخِرًا كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا أَوَّلًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعِيبَنَا فَيَقُولَ: إِنَّكُمْ تُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْوُجُوهَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَإِنَّا نَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ وُجُوهٌ مَعْدُودَةٌ فِي تَأْوِيلَاتِ آيَاتِ الْجَزَاءِ فَهُمْ يُكَرِّرُونَهَا فِي كُلِّ آيَةٍ فَنَحْنُ أَيْضًا نُكَرِّرُ الْجَوَابَ عَنْهَا فِي كُلِّ آيَةٍ فَنَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ الْأَصْلِيَّةَ صَالِحَةٌ لِلضِّدَّيْنِ وَلِلطَّرَفَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ. فَإِذَا لَمْ يَنْضَمَّ عَلَى تِلْكَ الْقُدْرَةِ دَاعِيَةٌ مُرَجِّحَةٌ امْتَنَعَ حُصُولُ الرُّجْحَانِ فَإِذَا انْضَمَّتِ الدَّاعِيَةُ الْمُرَجِّحَةُ إِمَّا إِلَى جَانِبِ الْفِعْلِ أَوْ إِلَى جَانِبِ التَّرْكِ ظَهَرَ الرُّجْحَانُ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ. وَقَدْ ظَهَرَ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِيهَا الْعَاقِلُ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ»
فَالْقَلْبُ كَالْمَوْقُوفِ بَيْنَ دَاعِيَةِ الْفِعْلِ وَبَيْنَ دَاعِيَةِ التَّرْكِ فَإِنْ حَصَلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِي الْفِعْلِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْفِعْلِ وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ دَاعِي التَّرْكِ تَرَجَّحَ جَانِبُ التَّرْكِ وَهَاتَانِ الدَّاعِيَتَانِ لَمَّا كَانَتَا لَا تَحْصُلَانِ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ عَبَّرَ عَنْهُمَا بِأُصْبُعَيِ الرَّحْمَنِ وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْصُلُ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَامِلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وان شاء اسقطه فههنا أَيْضًا كَذَلِكَ الْقَلْبُ وَاقِفٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّاعِيَتَيْنِ وَهَاتَانِ الدَّاعِيَتَانِ حَاصِلَتَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقَلْبُ مُسَخَّرٌ لِهَاتَيْنِ الدَّاعِيَتَيْنِ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»
وَالْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ- مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ-
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَلِّبُهُ تَارَةً مِنْ دَاعِي الْخَيْرِ إِلَى دَاعِي الشَّرِّ وَبِالْعَكْسِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ كُلُّ طَبْعٍ سَلِيمٍ وَعَقْلٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ.
وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ تَقْلِيبِ الْأَفْئِدَةِ عَلَى تَقْلِيبِ الْأَبْصَارِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ هُوَ الْقَلْبُ. فَإِذَا حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ إِلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى وَإِذَا حَصَلَتِ الصَّوَارِفُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ/ الْبَصَرُ عَنْهُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يُبْصِرُهُ فِي الظَّاهِرِ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ الْإِبْصَارُ سَبَبًا لِلْوُقُوفِ عَلَى الْفَوَائِدِ الْمَطْلُوبَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فَلَمَّا كَانَ الْمَعْدِنُ هُوَ الْقَلْبَ وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ فَهُمَا آلَتَانِ لِلْقَلْبِ كَانَا لَا مَحَالَةَ تَابِعَيْنِ لِأَحْوَالِ الْقَلْبِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ تَقْلِيبِ الْبَصَرِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وقع

صفحة رقم 115

الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ تَحْصِيلِ الْكِنَانِ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ السَّمْعِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْقَوِيُّ الْعَقْلِيُّ الْبُرْهَانِيُّ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مَعَ ذَلِكَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا؟ وَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ الضَّعِيفَةِ فَنَقُولُ: أَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ فَمَدْفُوعٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَذَرُهُمْ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، فَلَوْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، كَانَ هَذَا سوأ لِلنَّظْمِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ وَأَخَّرَ الْمُقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحِرْمَانَ مِنْ تِلْكَ الْأَلْطَافِ وَالْفَوَائِدِ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْحِرْمَانِ وَالْخُذْلَانِ فَكَيْفَ تَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فَبَعِيدٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ تَقْلِيبُ الْقَلْبِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ وَنَقْلُهُ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ. وَعَلَى مَا يَقُولُهُ الْقَاضِي فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْقَلْبُ بَاقٍ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ التَّقْلِيبَ وَالتَّبْدِيلَ فِي الدَّلَائِلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَاسِدَةٌ بَاطِلَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: دَخَلَتِ الْكَافُ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِظُهُورِ الْآيَاتِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ مِثْلَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ فَلَا يُؤْمِنُونَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فِي بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ إِلَى مَا طَلَبُوا مِنَ الْآيَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، يَعْنِي كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَكَذَلِكَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَلَا حَاجَةَ فِيهَا إِلَى الْإِضْمَارِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فَالْجُبَّائِيُّ قَالَ: وَنَذَرُهُمْ أَيْ لَا نَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِمْ وَلَا نَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِمُعَاجَلَةِ الْهَلَاكِ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّا نُمْهِلُهُمْ فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى طُغْيَانِهِمْ فَذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَهُوَ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: مَعْنَاهُ إِنَّا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَنَتْرُكُهُمْ فِي ذَلِكَ الطُّغْيَانِ وَفِي ذَلِكَ الضَّلَالِ وَالْعَمَهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِلْجُبَّائِيِّ: إِنَّكَ تَقُولُ إِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مَا أَرَادَ بِعَبِيدِهِ إِلَّا الْخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ، فَلِمَ تَرَكَ هَذَا الْمِسْكِينَ حَتَّى عَمِهَ فِي طُغْيَانِهِ؟ وَلِمَ لَا يُخَلِّصُهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فَيَفُوتُهُ الِاسْتِحْقَاقُ فَقَطْ، وَلَكِنْ يَسْلَمُ مِنَ الْعِقَابِ، أَمَّا إِذَا تَرَكَهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ. وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِقَابُ الْعَظِيمُ الدَّائِمُ، فَالْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ خَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ مَفْسَدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ فَوْتُ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، أَمَّا الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ إِبْقَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَهِ وَالطُّغْيَانِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهِ فَهِيَ فَوْتُ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ،

صفحة رقم 116
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية