آيات من القرآن الكريم

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ

لمَّا بيَّن البيَّنَاتِ الباهرة، والدلائل القاهرة المطالب الإلهية عاد إلى تَقْرِير الدَّعْوَةِ والتبليغ والرسالة، وإنما ذكر الفِعْلَ لشيئين:

صفحة رقم 352

أحدهما: الفصل بالمفعول.
والثاني: كون التأنيث مَجَازِياً.
والبَصَائِرُ: جمع «بَصِيرَة» وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء ومنه قيل للدَّمِ الدال على القتيل «مبصرة» والبصيرة مُخْتَصَّةٌ بالقلب [كالبَصَرِ للعين، هذا قول بعضهم.
وقال الراغب: «ويقال لقوة القلب المُدْرِكة:» بَصِيرَةٌ وبَصَرٌ «] قال تبارك وتعالى: ﴿بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: ١٤] وقال تعالى: ﴿مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى﴾ [النجم: ١٧] وتقدَّم تحقيق هذا في أوائل سوة» البقرة «.
وأراد بالبَصَائِرِ الآيات المتقدمة، وهي في نَفْسِهَا لَيْسَتْ بَصَائِرَ إلا أنها لقوتها وجلائهَا تُوجِبُ البصائِرَ لمن عرفها، ووقَفَ على حَقَائِقهَا، فلما كانت سَبَباً لحصول البَصَائِرِ سميت بالبَصَائِرِ.
قوله:»
مِنْ ربِّكُمْ «يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله، وأن يتعَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ لما قبله، أي: بصائر كائنة من ربكم و» من «في الوجهين لابتداء الغاية مَجَازاً.
قوله:»
فَمَنْ أبْصَرَ «يجوز أن تكون شَرطيَّةً، وأن تكون مَوصُولةً فالفاء جواب الشَّرطِ على الأوَّلِ، ومزِيدَةٌ في الخبر لشبه المْصُولِ باسم الشرط على الثُّانِي، ولا بُدَّ قبل لام الجرِّ من مَحْذُوفٍ يَصِحُّ به الكلام، والتقدير: فالإبْصَارُ لِنَفْسِهِ، ومَنْ عَمِيَ فالعَمَى عليها، فإلإبصار والعَمَى مُبْتَدآنِ، والجارُّ بعدهما هو الخَبَرُ بعدهما هو الخَبَرُ، والفاء دَاخِلَةٌ على هذه الجملة الواقعة جواباً أو خبراً، وإنما حُذِف مُبْتَدؤها للعلم به، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا فقال:» فلنفسه نَفْعُ ذلك ومن عَمِيَ فعليها ضَرَرُ ذلك «.
وقال الزمخشري:»
فَمْنْ أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع، ومن عمي فعليها، أي: فعلى نفسه عَمِي، وإياها ضر «.
قال أبو حيَّان: وما قدَّرناه من المصدر أوْلَى، وهو فالإبصار والعمى لوجهين:
أحدهما: أن المَحْذُوفَ يكون مفرداً لا جملة، والجار يكون عُمْدَةً لا فَضْلَةً، وفي تقديره هو المحذوف جملة، والجار والمرجور فَضْلَة.
والثاني: وهو أقوى، وذلك أنه لو كان التقدير فِعْلاً لم تدخل الفاء سواء كانت شَرطيَّةً أم موصولة مشبهة بالشرط؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دُعَاءً ولا جَامِداً، ووقع جوابُ الشَّرطِ أو خبر مبتدأ مُشَبَّهٌ بالشرط لم تدخل الفاءُ في جواب الشرط، ولا في خبر

صفحة رقم 353

المبتدأ لو قلت:» من جاءني فأكرمته «لم يَجُزْ بخلاف تقديرنا، فإنه لا بُدَّ فيه من الفاء، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر.
قال شهاب الدين: وهذا التقدير الذي قدَّرهُ الزمخشري سبقه إليه الكَلْبِيُّن فإنه قال: فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فنلفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّقْ فعلى نفسه جَنَى العذاب»
وقوله: إن الفاء لا تَدْخُلُ فيما ذُكِرَ قد يُنازعُ فيه، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً، ويظهر فيه أثَرُ الجَازِمِ كالمُضارعِ يجوز فيه دُخُولُ الفاء نحو:
﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥] فالماضي بدخولها أوْلَى وأحْرَى.

فصل في بيان عود المنافع للبشر


قال القاضي: إنه - تعالى - بيَّن لنا أن المنافِعَ تعودإليها لا لمنافع تعود إلى الله تبارك وتعالى - وأيضاً إن المَرْءَ بِعُدُولِهِ عن النَّظَرِ يَضُرُّ بنفسه، ولم يؤت إلاَّ من قبله لا من قبل ربِّهِ، وأيضاً إنه متمكِّنٌ من الأمرين، فلذلك قال: «فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَليْها» قال: وهذا يبطل قول المجبرة [في أنه - تعالى - يكلف بلا قدرة] وجوابه المعارضة بسؤال الداعي.
قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي: برقيب أحْي عليكم أعمالكم، إنما أنا رَسُولُهُ أبلغكم رِسالاتِ ربي، وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شَيءٌ من أعمالكم.

فصل في معنى الآية


قال المفسرون: هذا كان قبل الأمْرِ بالقتالِ، فلما أمِرَ بالقتال صار حَفِيظاً عليهم، ومنهم من يقول: آيَةُ القِتَالِ نَاسِخَةٌ لهذه الآية الكريمة، وهو بعيد؛ لأن الأصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ.

صفحة رقم 354
اللباب في علوم الكتاب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان
سنة النشر
1419 - 1998
الطبعة
الأولى، 1419 ه -1998م
عدد الأجزاء
20
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية