
تفسير سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: على كل فعال، وبكل لسان، وعلى نعم الإسلام، وعلى صحة الأبدان) (١). قال أهل المعاني: (هذا في لفظ الخبر ومعناه الأمر، أي: احمدوا الله، وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر؛ لأنه أبلغ في البيان من حيث إنه جمع الأمرين، ولو قيل: احمدوا الله، لم يجمع الأمرين) (٢). وقد ذكرنا في (٣) معنى قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ في الفاتحة ما فيه مقنع.وقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، قال الزجاج (٤): (ذكر أعظم الأشياء المخلوقة؛ لأن السماء (٥) بغير عمد ترونها، والأرض غير مائدة بنا) (٦).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٣، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٩١، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٥٨٤، وذكره الخازن في "تفسيره" ٢/ ١١٧، عن أهل المعاني.
(٣) لفظ (في): ساقط من (ش).
(٤) الزجاج: أبو إسحاق إبراهيم بن السري البغدادي، إمام أكثر الواحدي من الناقل عنه، وقد تقدمت ترجمته.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٢٧.
(٦) في (أ): (مائدة بناها)، وعند الزجاج: (مائدة بنا).

وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، قد ذكرنا معاني جعل (١) في قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣]، و ﴿جَعَلَ﴾ هاهنا بمعنى خلق، كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]. قال ابن عباس: (﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ﴾: ظلمة الشرك، وظلمة النفاق، وظلمة الكفر، وظلمة العصيان، ﴿وَالنُّورَ﴾ يريد: نور الإِسلام، ونور الإيمان، ونور النبوة، ونور اليقين) (٢). وقال الحسن: (يعني الكفر والإيمان) (٣). وقال السدي: (يعني الليل والنهار) (٤) وهو اختيار الزجاج (٥)، والأولى أن يكون هذا عامًّا في كل ظلمة ونور؛ لأن جميع ذلك مخلوق لله تعالى (٦).
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٥١، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٦٨، وفي "الدر" للسيوطي ٣/ ٦. أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: (الكفر والإيمان).
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ١/ ٥ - ٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٢٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٢، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٥١، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٨٦، والخازن في "تفسيره" ٢/ ١١٧.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ١٤٣، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٠، بسند جيد.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٢٧.
(٦) ذكر قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٥١، وقال: (هذا مشكل؛ لأنه حمل للفظ على مجازه، واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معًا) ا. هـ. والظاهر حمل الآية على ظاهرها، والمراد أنار النهار وأظلم الليل، وهو اختيار الجمهور، قال الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية والزنادقة" ص ١٠٧؛ (يعني خلق الظلمات والنور)، وقال ابن عطية ٥/ ١٢١: (قالت فرقة: الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان، وهذا غير جيد؛ لأنه أخرج لفظٌ بيّن في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق اللغز الذي برئ القرآن منه، والنور أيضًا هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه) ا. هـ. وانظر "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٣، والسمرقندي ١/ ٤٧٣، والماوردي ٢/ ٩٢، و"البحر" ٤/ ٦٨.

قال المفسرون: (الظلمة أقدم من النور، وهي مخلوقة قبل، فلذلك قدمت في الذكر، وكذلك السموات خلقت قبل الأرض) (١).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ يعني: عبدة الأوثان في قول عامة المفسرين (٢). قال ابن عباس: (يريد: عدلوا بي من خلقي الحجارة والأصنام بعد أن أقروا بربوبيتي وبنعمتي) (٣)، وقال الزجاج: (أعلم الله تعالى أنه خالق ما ذكر في هذه الآية، وأن خالقها لا شيء مثله، وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلاً، فيعبدون الحجارة [الموات (٤)]، وهم مقرون بأن الله خالق ما وصف (٥)، وقوله: ﴿يَعْدِلُونَ﴾، العدل: التسوية؛ يقال: عدل الشيء بالشيء إذا سواه (٦). ومعنى ﴿يَعْدِلُونَ﴾: يشركون به
(٢) انظر الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٤٤، والسمرقندي ١/ ٤٧٣، وابن كثير ٢/ ١٣٩، والظاهر أنها عامة في سائر أصناف الكفار، وهو اختيار الطبري في "تفسيره"، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٢٢.
(٣) في تنوير المقباس ٢/ ٣، قال: (يعدلون به الأصنام).
(٤) لفظ: (الموت) ساقط من (أ)، وفي (ش): (والموات).
(٥) معاني الزجاج ٢/ ٢٢٧.
(٦) انظر: "العين" ٢/ ٣٨، و"الجمهرة" ٦٦٣، و"الصحاح" ٥/ ١٧٦١، و"المجمل" ٣/ ٦٥١، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٤٦، و"المفردات" ص ٥٥١، و"اللسان" ٥/ ٢٨٤٠ (عدل).

غيره، قاله (١) مجاهد. وقال الأحمر (٢): (عدل الكافر بربه عدلاً وعدولًا إذا سوى به غيره فعبده) (٣).
وقال الكسائي (٤): (عدلت الشيء أعدله عدولًا إذا ساويته [به] (٥)، وعدل الحاكم في الحكم عدلاً) (٦). والآية توجب أنه لا تجوز العبادة إلا لمن له القدرة على خلق السموات والأرض، وهو الله وحده لا شريك له (٧).
وقال صاحب النظم (٨): (دخول ثم في قوله: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ دليل على معنى لطيف، وهو أنه عز وجل دل به على إنكاره على الكفار العدل به وعلى تعجب المؤمنين من ذلك، مثال (٩) أن تقول: أكرمتك وأحسنت إليك
(٢) تقدمت ترجمته.
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٦٠ (عدل).
(٤) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي، تقدمت ترجمته.
(٥) لفظ: (به) ساقط من (ش).
(٦) "معاني النحاس" ٢/ ٣٩٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٦٠ (عدل).
(٧) قال الشنقيطي في "تفسيره" ٢/ ١٨٠: (في قوله تعالى: ﴿يَعْدِلُونَ﴾ وجهان للعلماء، أحدهما: أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف والميل عنه، وعلى هذا فقوله: ﴿بِرَبِّهِمْ﴾ متعلق بقوله: ﴿كَفَرُوا﴾...
والثاني: أن الباء متعلقة بـ"يعدلون" والمعنى يجعلون له نظيرًا في العبادة، وهذا الوجه هو الذي يدل عليه القرآن). وهذا اختيار ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٣٩.
(٨) صاحب النظم هو: الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني، أبو علي، له كتاب "نظم القرآن" مفقود.
(٩) في (ش): (مثل).