[سورة الحشر (٥٩) : آية ٥]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥). (١) لينة: نخلة، وقيل إنها نوع خاص من جيد النخل. وقيل إنها غرسة النخل الفتية.
الخطاب في الآية موجّه إلى النبي والمؤمنين على سبيل تبرير ما فعلوه من قطع بعض نخيل بني النضير لإرهابهم وإرغامهم. فهي تقرر أن ما قطعوه إنما قطعوه بإذن الله وما أبقوه إنما أبقوه بإذن الله. وما كان من إذن الله إنما كان لخزي العاصين المتمردين وإرغامهم.
والآية استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر. وقد روي أن بني النضير عيّروا النبي بتقطيعه النخل وأن المنافقين من حلفائهم شاركوهم في هذا التعبير فاقتضت حكمة التنزيل إنزالها لتثبّت النبي والمسلمين وللردّ على اليهود والمنافقين. وقد يكون في التبرير القرآني إجازة لأي عمل من نوعه يؤدي إلى إرغام العدو حينما تقوم حالة حرب وعداء بين الكفار والمسلمين والله تعالى أعلم.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٦ الى ٧]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)
. (١) أفاء: جعله فيئا أو ساقه.
(٢) أوجفتم: هيّأتم، ومعنى جملة فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ صفحة رقم 308
لم تسيروا مسيرة تحتاج إلى خيل وركائب ولم تقاسوا حربا ولا مشقة في سبيل ما أفاء الله عليكم.
(٣) كيلا يكون دولة بين الأغنياء: لئلا يكون المال العائد من هذا الفيء مما يصحّ أن يتداوله الأغنياء.
تضمنت الآيات:
١- مقدمة تبريرية لتشريع الفيء. فأملاك وبساتين اليهود المجليين إنما هي هبة الله وتيسيره لرسوله. ولم يكن على المسلمين في إحرازها مشقة وكلفة من حرب وإعداد خيل ومؤونة، وقد مكّن الله رسوله من ذلك وهو الذي يسلط رسله على من يشاء وهو القدير على كل شيء.
٢- تشريعا بشأن هذه الأملاك والبساتين: فما أفاء الله على رسوله والحالة هذه فهو لله والرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وليس للأغنياء فيه نصيب حتى لا تبقى الثروة محصورة التداول بين الأغنياء.
٣- تدعيما لهذا التشريع: فعلى المؤمنين أن يسمعوا ويطيعوا. فما آتاهم الرسول أخذوه. وما نهاهم عنه ومنعهم منه وجب عليهم أن ينتهوا عنه ويمتنعوا.
وعليهم بتقوى الله والوقوف عند أوامره. فإنه شديد العقاب على من يخالف ويتجاوز حدوده المرسومة. والجملة الأخيرة تتضمن تقرير كون ما يفعله الرسول من مثل ذلك هو من وحي الله وأمره.
| تعليق على الآية وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ | إلخ والآية التالية لها وتشريع الفيء |
وبساتين بني النضير أسوة بغنائم بدر وغيرها أي بعد إفرازه الخمس لبيت المال والمعوزين من المسلمين، فكان رأي النبي أن جميعها لبيت المال والمعوزين لأنهم لم يوجفوا على إحرازها خيلا ولا ركابا. وأن الآيات قد نزلت بسبيل تأييد رأي النبي صلى الله عليه وسلم.
والرواية محتملة الصحة كما هو ظاهر مع التنبيه إلى أن أسلوبها القوي الحاسم الذي تضمن فيما تضمنته إنذارا شديدا يدل على أن الذين طالبوا بالقسمة كانوا متشددين في موقفهم. وفي ذلك مشهد من مشاهد السيرة النبوية والتشريع القرآني وظروفه. بل وأنه ليتبادر لنا والله أعلم أن جميع هذا الفصل بل السورة جميعها نزلت بسبيل ذلك.
وأسلوب الآية الثانية يجعل التشريع فيها عاما شاملا لكل ما يدخل في حوزة رسول الله وخلفائه من بعده بالتبعية من أموال العدو بدون تكلّف المسلمين نفقة ومشقة ليكون لبيت المال وينفق على مصالح الإسلام والمسلمين العامة وعلى فقراء المسلمين ومحتاجيهم معا.
وهذا ثاني تشريع قرآني مالي ورسمي بعد تشريع الغنائم الحربية. وقد عرف باسم الفيء اقتباسا من نصّ الآيات وروحها. ولقد نبهنا على ما في تشريع الغنائم من خطورة وجلال. وتشريع الفيء أعظم خطورة وأبعد مدى لأنه يتضمن تخصيص جميع ما يأتي من هذا المورد للصالح العام وفقراء المسلمين.
والجهات والفئات التي خصص لها الفيء هي التي خصص لها خمس الغنائم في آية سورة الأنفال [٤١] ولقد كتبنا تعليقا وافيا على آية سورة الأنفال وأوردنا الأحاديث والروايات التي أورد المفسرون كثيرا منها أيضا في سياق آيات الفيء هذه. وكل ما ذكرناه في تعليقنا المذكور يصح أن يساق هنا فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والزيادة.
تعليق على جملة وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
مع أن هذه الجملة جاءت لتدعم تشريع الفيء الذي احتوته الجملة السابقة لها ثم لتوطيد سلطة النبي ﷺ في ذلك فإنها جاءت في صيغة مطلقة فصارت تشريعا عام الشمول بوجوب اتباع أوامر النبي ﷺ ونواهيه وسننه القولية والفعلية كجزء من العقيدة الإسلامية. وقد أكد هذا في آية أقوى في سورة النساء وهي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) بالإضافة إلى آيات أخرى فيها تدعيم مثل آيات آل عمران [٣١ و ٣٢] والنساء [٥٩ و ٦٨] والنور [٥٢] والأحزاب [٧١] والفتح [١٧]. والجملة التي نحن في صددها والآيات التي أوردناها أو أشرنا إلى أرقامها تتضمن إيذانا من الله عزّ وجلّ بعصمة النبي ﷺ فيما يأمر به وينهى عنه عن الأمر إلّا بما هو صالح وخير وعن النهي إلّا بما هو ضارّ وباطل.
وتنبيه على أن هذا ليس من شأنه أن يتناقض مع ما تضمنته بعض الآيات من عتاب للنبي ﷺ على بعض ما فعله. فهذا كان منه اجتهادا بأنه خير وصالح. ولم يكن يعلم ما هو الأولى في علم الله بدون وحي. ولقد كان النبي ﷺ يأمر وينهى كثيرا باجتهاد منه فكان القرآن يسكت عن ذلك مقرّا أو يؤيده نصّا أو يعاتب عليه ويوحي بما هو الأولى حسب مقتضى حكمة الله على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وهناك أحاديث نبوية رواها أصحاب الصحاح في دعم ذلك وتوضيحه.
من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي وأورده الأئمة والمفسرون في سياق الجملة التي نحن في صددها قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم
كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» »
. وحديث أورده الخازن في سياق الجملة جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول ما أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» «٢».
والأمر في حياة النبي ﷺ ميسور بالاستماع منه والرجوع إليه شخصيا. أما بعد وفاته فقد أصبح السير واجبا وفق ما روي وصحّ عنه من أوامر ونواه وسنن قولية وفعلية.
وهذا بطبيعة الحال يستتبع وجوب التثبيت فيما ينسب إليه من ذلك. ولقد يسّر الله رجالا مخلصين لله ورسوله محّصوا ما نسب إليه من أحاديث ودونوا ما صحّ عندهم منها فصارت مرجعا عظيما من مراجع التشريع الإسلامي. ومن أهم الضوابط التي وضعها العلماء أن لا يكون بين ما نسب إليه وبين أحكام ومبادئ القرآن الثابتة والمحكمة الواضحة تعارض وتناقض. لأن النبي ﷺ لا يمكن أن يأمر وينهى بما يتعارض مع الأحكام والمبادئ القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في شؤون وأحكام قرآنية تدور على الأغلب حول تخصيص ما فيه إطلاق، وتوضيح ما فيه غموض، وإتمام ما يحتاج إلى إتمام، وبيان ما سكت القرآن عن جزئياته وأشكاله وفروعه مثل عدد ركعات الصلوات وكيفياتها وأركانها ونصاب الزكاة على أنواع الأموال وبقية أنصبة الإرث التي تبقى في حالة وراثة النساء لآبائهن وإخوانهن وطقوس الحج إلخ.. إلخ.. وقد مرّ من ذلك أمثلة كثيرة وسيأتي أمثلة أخرى في المناسبات الآتية.
(٢) في التاج حديث فيه مثل هذا الحديث مع زيادة مهمة رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب عن النبي ﷺ جاء فيه: «ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي. ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها.
ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه»، التاج ج ٣ ص ٨٧.