آيات من القرآن الكريم

وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۙ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ

عَنْ تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ إِلَى قَوْلِهِ:
وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التَّوْبَة: ٦٧]، فَهُمْ إِذَا سَمِعُوا الْخِطَابَ علمُوا أَنهم الْمَقْصُود عَلَى نَحْوِ مَا فِي آيَاتِ سُورَةٍ بَرَاءَةٌ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ سَنَةَ غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَدَدٌ يُعْتَدُّ بِهِ فَيُوَجَّهُ إِلَيْهِ خِطَابٌ كَهَذَا.
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَأَنْفِقُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لِمَا فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى غَفْلَةِ السَّامِعِينَ عَنْ كَوْنِ الْمَالِ لِلَّهِ جَعَلَ النَّاسَ كَالْخَلَائِفِ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ مُدَّةً مَا، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا عَلَى عِبَادِهِ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا لِذَلِكَ كَمَا يَمْتَثِلُ الْخَازِنُ أَمْرَ صَاحِبِ الْمَالِ إِذَا أَمَرَهُ بِإِنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى مَنْ يُعِّينُهُ.
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي مُسْتَخْلَفِينَ لِلْمُبَالَغِةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ لَا لِلطَّلَبِ لِاسْتِفَادَةِ الطَّلَبِ مِنْ فِعْلِ جَعَلَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِتَأْكِيدِ الطَّلَبِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ تَفْرِيعٌ وَتَسَبُّبٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ لِإِفَادَةِ تَعْلِيلِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنْفَقُوا أَعْدَدْنَا لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا.
وَالْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ كَوْنِ الْآيَةِ مَكِّيَّةً: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَيْنِكُمْ وَأَنْفَقُوا، أَيْ سَبَقُوكُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، أَيْ فَاغْتَنَمُوهُ وَتَدَارَكُوا مَا فَاتُوكُمْ بِهِ.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ بَعْضُ قومكم.
وَفِي هَذَا إغراء لَهُم بِأَن يماثلوهم.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلَا الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا مُسْتَعْمَلَانِ فِي مَعْنَى الْمُضَارع للتّنْبِيه عَن إِيقَاع ذَلِك.
[٨]
[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ٨]
وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
ظَاهِرُ اسْتِعْمَالِ أَمْثَالِ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا

صفحة رقم 369

فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ كَوْنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي الطَّلَبِ لَا فِي الدَّوَامِ.
وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا تُؤْمِنُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْكَوْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ الْجَارُّ
وَالْمَجْرُورُ كَمَا تَقُولُ: مَا لَكَ قَائِمًا؟ بِمَعْنَى مَا تَصْنَعُ فِي حَالِ الْقِيَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا لَكُمْ كَافِرِينَ بِاللَّهِ، أَيْ مَا حَصَلَ لَكُمْ فِي حَالَةِ عَدَمِ الْإِيمَانِ.
وَجُمْلَةُ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ لَا الْعَطْفِ، فهما حالان متداختان. وَالْمَعْنَى: مَاذَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَقَدْ بَيَّنَ لَكُمُ الرَّسُولُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ وَحُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ حَقٌّ فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ فَقَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَاتُ حَقِّيَّتِهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِصْرَارَكُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمِيثَاقُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ هُوَ مِيثَاقٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مَا يُمَاثِلُ الْمِيثَاقَ مِنْ إِيدَاعِ الْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَكَأَنَّهُ مِيثَاقٌ قَدْ أُخِذَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ فِي الْأَزَلِ وَشَرْطِ التَّكْوِينِ فَهُوَ نَامُوسٌ فِطْرِيٌّ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٢].
فَضَمِيرُ أَخَذَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ النُّفُوسَ لَو خلت من الْعِنَادِ وَعَنِ التَّمْوِيهِ والتضليل كَانَتْ مُنْسَاقَةً إِلَى إِدْرَاكِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَكْشِفُ عَنْهُمْ مَا غَشَّى عَلَى إِدْرَاكِهِمْ من دُعَاء أيمة الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ.
وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ.
وَاسم فَاعل فِي قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ وُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، أَيْ فَقَدْ حَصَلَ مَا يَقْتَضِي أَنْ تُؤْمِنُوا مِنَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَالسَّبَبِ الْخَفِيِّ الْمُرْتَكِزِ فِي الْجِبِلَّةِ.

صفحة رقم 370
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية