آيات من القرآن الكريم

سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ

حال الدنيا والحث على عمل الآخرة
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
الإعراب:
كَمَثَلِ غَيْثٍ.. الكاف في موضع رفع، إما وصف لقوله وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وإما خبر بعد خبر وهي الْحَياةُ في قوله تعالى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ.
عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ... كَعَرْضِ جار ومجرور في موضع رفع، لأنه خبر المبتدأ الذي هو عَرْضُها والجملة في موضع جر، لأنها صفة ل جَنَّةٍ.
البلاغة:
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا تشبيه تمثيلي، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
إِلى مَغْفِرَةٍ مجاز مرسل علاقته المسببية، أي إلى سبب مغفرة.
المفردات اللغوية:
لَعِبٌ ما لا فائدة فيه. وَلَهْوٌ ما يشغل الإنسان عما يعنيه. وَزِينَةٌ تزيين أو ما يتزين به، كالمناصب العالية والمراكب البهية والمنازل الرفيعة والملابس الفاخرة. وَتَفاخُرٌ بالألقاب والأمجاد والأنساب. وَتَكاثُرٌ مباهاة بكثرة الأموال والأولاد. كَمَثَلِ أي أن الدنيا

صفحة رقم 319

في إعجابها لكم واضمحلالها كمثل غَيْثٍ مطر. أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أعجب الزراع نباته الناشئ عنه. ثُمَّ يَهِيجُ ييبس بعد أن كان أخضر. حُطاماً هشيما متكسرا من الجفاف أو اليبس. وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لمن آثر عليها الدنيا. وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لمن آثر الآخرة، وهذا تنفير عن الانهماك في الدنيا، وحث على العمل للآخرة. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي وما التمتع في الدنيا. إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ متاع الخديعة لمن أقبل عليها ونسي الآخرة.
سابِقُوا سارعوا مسارعة السابقين في مضمار السباق. إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى موجبات المغفرة. وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي عرضها كعرضهما، وإذا كان العرض كذلك، فما ظنك بالطول؟ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه دليل على أن الجنة مخلوقة، وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك الموعود به من الجنة والمغفرة يتفضل الله به على من يشاء من عباده من غير إيجاب ولا إلزام. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والله واسع الفضل، لا يبعد منه التفضل بذلك.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحوال الفريقين: المؤمنين والكافرين في الآخرة، أردفه بما يدل على تحقير أمور الدنيا، وكمال حال الآخرة، فإن الدنيا قليلة النفع سريعة الزوال، والآخرة تامة الفائدة، خالدة باقية، ولا شك أن الأدوم الأخلد مفضل على المؤقت، لذا أعقبه بالحث على ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه والفوز بالنعيم الأبدي.
التفسير والبيان:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي اعلموا أيها الناس جميعا أن الحياة الدنيا مجرد لعب لا جدّ، ولهو يتلهى به ثم يذهب، وزينة يتزيّن بها مؤقتا، ومفخرة يفتخر بها بعضكم على بعض بكثرة الأموال وعدد الأولاد.
كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ

صفحة رقم 320

الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ، ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
[آل عمران ٣/ ١٤].
وهذا يدل على حقارة الدنيا، ثم شبهها في سرعة زوالها، مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث وربّاه إلى أن يتكامل نشوؤه ثم يزول، فقال:
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي أن الدنيا مثل مطر، أعجب الزراع النبات الحاصل به، ثم يجف وييبس بعد خضرته، ثم يكون فتاتا هشيما متكسرا متحطما بعد يبسه، تعصف به الرياح. والكفار هنا: الزّراع، لأنهم يكفرون البذر في الأرض، أي يغطونه بالتراب.
ونظير الآية: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً، فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس ١٠/ ٢٤].
ثم حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير استعدادا للآخرة، فقال:
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي وليس في الآخرة الآتية إلا أمران: إما عذاب شديد لأعداء الله، وإما مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، وما الحياة الدنيا إلا مجرد متاع يتمتع به، وخديعة لم يغتر بها، ولم يعمل لآخرته، حتى أعجبته واعتقد أنه لا دار سواها، ولا معاد وراءها، مع أنها حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور، إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه، فنعم المتاع ونعم

صفحة رقم 321

الوسيلة. وهذا دليل على أن من استعان على الآخرة بطلب الدنيا، فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منه.
روى ابن جرير، وجاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» اقرؤوا:
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ والزيادة الأخيرة في رواية ابن جرير فقط.
وأخرج البخاري وأحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك»
وهذا يدل على اقتراب الخير والشر من الإنسان.
ولما ذكر الله تعالى ما في الآخرة من المغفرة أمر بالمسابقة إليها:
أي إنه سبحانه حث على المبادرة إلى الخيرات، والمسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة، من فعل الطاعات، وترك المحرمات التي تكفّر الذنوب والزلّات، وتحصّل الثواب والدرجات، فقال:
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي بادروا أو سارعوا مسارعة المتسابقين بالأعمال الصالحة إلى ما يوجب المغفرة لكم من ربكم، وسارعوا إلى التوبة الماحية للذنوب والمعاصي، وإلى ما يوصّل إلى جنة عرضها مثل عرض السماء والأرض معا، وإذا كان هذا قدر عرضها، فما ظنك بطولها؟! تلك الجنة التي هيئت وخلقت للذين صدقوا بالله وبرسله، وعمل بما فرض الله عليه، واجتنب نهيه.
ثم بيّن الله تعالى أن المغفرة والجنة فضل منه ورحمة، لا إيجاب وإلزام،

صفحة رقم 322

فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي إن هذا الجزاء الموعود به وهو الجنة والمغفرة مجرد فضل من الله ورحمة منه، وليس واجبا عليه.
جاء في الحديث الصحيح: «أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال: وما ذاك؟
قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال: أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم، تسبّحون وتكبّرون وتحمّدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، قال: فرجعوا، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ»
.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- إن المقصود الأصلي من الآية الأولى تحقير حال الدنيا، وتعظيم حال الآخرة، لذا وصف الله تعالى الدنيا بخمس صفات: أنها لعب وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدا، ثم تنقضي متاعبهم من غير فائدة، وأنها لهو وهو فعل الشبان، ولا يبقى غالبا بعده إلا الحسرة، وأنها زينة وهذا دأب النساء وهو تكميل الناقص، وتفاخر بين أهلها بالصفات الفانية الزائلة، وهو إما التفاخر بالنسب، أو التفاخر بالقدرة المادية والقوة الجسدية والأتباع والمنصب، وكلها ذاهبة، وأنها تكاثر في الأموال والأولاد.
ثم شبهها في سرعة انقضائها وزوال جمالها بالزرع الذي يعجب الناظرين إليه، لحضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن. وقد ذكر هذا المثل في سورتي يونس (٢٤) والكهف (٤٥).

صفحة رقم 323
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية