
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٦٠]
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠)تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الْمَبْدُوءَةِ بِقَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: ٤٦]، أَيْ لِأَنَّهُمْ أَحْسَنُوا فَجَازَاهُمْ رَبُّهُمْ بِالْإِحْسَانِ.
وَالْإِحْسَانُ الْأَوَّلُ: الْفِعْلُ الْحَسَنُ، وَالْإِحْسَانُ الثَّانِي: إِعْطَاءُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْخَيْرُ، فَالْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أحسن فِي كَذَا، وَالثَّانِي مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْسَنَ إِلَى فُلَانٍ.
وَالْاِسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِالْاِسْتِثْنَاءِ فَأَفَادَ حَصْرَ مُجَازَاةِ الْإِحْسَانِ فِي أَنَّهَا إِحْسَانٌ، وَهَذَا الْحَصْرُ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ الْجَزَاءَ الْحَقَّ وَمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ لَدَى الظَّالِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٢] وَقَالَ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الْأَعْرَاف: ١٩٠].
وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ جَزَاءَ الْإِسَاءَةِ السُّوءُ قَالَ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: ٢٦].
[٦١]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٦١]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١)
الْقَوْلُ فِيهِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي نَظَائِره.
[٦٢- ٦٩]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٩]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩)
عَطْفٌ عَلَى قَوْله: جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: ٤٦]، أَيْ وَمِنْ دُونِ تِينِكَ الْجَنَّتَيْنِ جَنَّتَانِ، أَيْ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ.
وَمَعْنَى مِنْ دُونِهِما يُحْتَمَلُ أَنَّ (دُونَ) بِمَعْنَى (غَيْرَ)، أَيْ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ صفحة رقم 271

رَبِّهِ جَنَّتَانِ وَجَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ غَيْرُهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس: ٢٦].
وَوُصِفَ مَا فِي هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ بِمَا يُقَارِبُ مَا وُصِفَ بِهِ مَا فِي الْجَنَّتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ وَصْفًا سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ أَيْضًا لِبَيَانِ حُسْنِهِمَا تَرْغِيبًا فِي السَّعْيِ لِنَيْلِهِمَا بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ مُوجَبُ تَكْرِيرِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ أَو مَا يقرب مِنَ التَّكْرِيرِ بِالْمُتَرَادِفَاتِ.
وَيَكُونُ لِكُلِّ الْجَنَّاتِ الْأَرْبَعِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ لَا يَنْتَقِلْنَ مِنْ قُصُورِهِنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (دُونَ) بِمَعْنَى أَقَلِّ، أَيْ لِنُزُولِ الْمَرْتَبَةِ، أَيْ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ أقلّ من الْأَوَّلين فَيَقْتَضِي ذَلِك أَن هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ لِطَائِفَةٍ أُخْرَى مِمَّنْ خَافُوا مَقَامَ رَبِّهِمْ هُمْ أَقَلُّ مِنَ الْأَوَّلِينَ فِي دَرَجَةِ مَخَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَعَلَّ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ الَّذِينَ وَرَدَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ والجنتين المذكورتين قبلهمَا فِي قَوْلِهِ: جَنَّتانِ... ذَواتا أَفْنانٍ [الرَّحْمَن: ٤٦، ٤٨] إِلَى آخِرِ الْوَصْفِ جَنَّتَا السَّابِقَيْنِ الْوَارِدِ ذِكْرَهُمْ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [١٠] وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ الْآيَاتِ.
ومُدْهامَّتانِ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الدُّهْمَةِ بِضَمِّ الدَّالِ وَهِيَ لَوْنُ السَّوَادِ. وَوَصَفَ الْجَنَّتَيْنِ بِالسَّوَادِ مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ خُضْرَةِ أَشْجَارِهِمَا حَتَّى تَكُونَا بِالْتِفَافِ أَشْجَارِهَا وَقُوَّةِ خُضْرَتِهَا كَالسَّوْدَاوَيْنِ لِأَنَّ الشَّجَرَ إِذا كَانَ ريّان اشْتَدَّتْ خُضْرَةُ أَوْرَاقِهِ حَتَّى تَقْرُبَ مِنَ السَّوَادِ، وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو تَمَامٍ وَرَكَّبَ عَلَيْهِ فَقَالَ:
يَا صَاحِبَيَّ تَقَصَّيَا نَظَرَيْكُمَا | تَرَيَا وُجُوهَ الْأَرْضِ كَيْفَ تُصَوَّرُ |
تَرَيَا نَهَارًا مُشْمِسًا قَدْ شَابَهَ | زَهْرَ الرُّبَى فَكَأَنَّمَا هُوَ مقمر |
: فَوَّارَتَانِ بِالْمَاءِ، وَالنَّضْخُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ فِي آخِرِهِ أَقْوَى مِنَ النَّضْحِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الَّذِي هُوَ الرَّشُّ.
وَقَدْ وَصَفَ الْعَيْنَانِ هُنَا بِغَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ الْعَيْنَانِ فِي الجنتين الْمَذْكُورَتَيْنِ، فَقِيلَ: هُمَا صِنْفَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي أَوْصَافِ الْحُسْنِ يُشِيرُ اخْتِلَافُهُمَا إِلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ فِي الْمَحَاسِنِ وَلِذَلِكَ جَاءَ هُنَا فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، وَجَاء فِيمَا تَقَدَّمَ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرَّحْمَن: ٥٢]. وَقِيلَ: الْوَصْفَانِ سَوَاءُ، وَعَلَيْهِ فَالْمُخَالِفَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْأَوْصَافِ تَفَنُّنٌ. صفحة رقم 272