
٤- لو خرجتم أيها الإنس والجن من ناحية ما، أرسل عليكم شواظ من نار (لهب خالص) ودخان أو نحاس مذاب يصب على رؤوسكم، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ أو الخروج، ولا ينصر بعضكم بعضا يا معشر الجن والإنس.
٥- كيف يصح لأحد من الإنس والجن إنكار أو تكذيب شيء من هذه النعم؟ فإن الحساب حق والجزاء حق، يستهدف كل منهما إحقاق الحق التام، وإرسال العدل المطلق، والتخويف والتحذير أو الترهيب يحقق الزجر والامتناع من المخالفة والعصيان، والإذعان التام والإقرار بعظمة سلطان الله، وملكه وقدرته.
تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٧ الى ٤٥]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥)
الإعراب:
فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ الجار والمجرور في محل رفع نائب فاعل، وليس في فَيُؤْخَذُ ضمير يعود على المجرمين وإنما يقدر ضمير في رأي البصريين، أي يؤخذ منهم أو يؤخذ بنواصيهم وأقدامهم. ويرى الكوفيون أن الألف واللام يقومان مقام الضمير، مثل:
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي أبوابها، وكقولهم: زيد أما المال فكثير، أي ماله. ويأتي البصريون ذلك، ويقدرون: مفتحة لهم الأبواب منها، وزيد أما المال فكثير له.

البلاغة:
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً.. تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، أي كالوردة في الحمرة.
المفردات اللغوية:
انْشَقَّتِ تصدعت. وَرْدَةً حمراء، أي كالوردة في الحمرة. كَالدِّهانِ مذابة كالدهن، أو كالأديم (الجلد) الأحمر، على خلاف ما هي عليه الآن، وجواب فَإِذَا محذوف تقديره: فما أعظم الهول. فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أي الناس والجن، وعدم المسؤولية حينما يخرجون من قبورهم، ويحشرون إلى الموقف. وأما قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر ١٥/ ٩٢] ونحوه فهو حين الحساب في موقف الحشر.
بِسِيماهُمْ علامتهم. بِالنَّواصِي جمع ناصية: وهي مقدّم الرأس. وَالْأَقْدامِ جمع قدم: وهي القدم المعروفة، ويؤخذ بهما مجموعا بينهما. يَطُوفُونَ يسعون. بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يترددون بين النار التي يحرقون بها، وبين ماء حارّ شديد الحرارة، يسقونه إذا استغاثوا من حرّ النار.
المناسبة:
هذه الآيات حلقة أخرى تتعلق بأحوال الآخرة والجزاء، فبعد أن ذكر الله تعالى رهبة الحساب وحتميته واستحالة التخلص منه أو الهرب من إيقاعه، ذكر تعالى ما يطرأ على العالم من تغير وتبدل واختلال النظام، حيث تتصدع السماء وتذوب كالدهن أو الزيت، ويتميز المجرمون عن غيرهم بعلامات خاصة، فلا حاجة لسؤالهم حينئذ، ثم يزجّ بهم في جهنم، بأخذهم بنواصيهم وأقدامهم، ويطاف بهم بين النار التي يحترقون بها، وبين الماء المغلي البالغ نهاية الشدة في الحرارة، ويقال لهم توبيخا وتقريعا: هذه جهنم التي كذبتم بها.
التفسير والبيان:
عقب الله بقوله: فَإِذَا لأن الفاء للتعقيب، بعد قوله:

فَلا تَنْتَصِرانِ أي في وقت إرسال الشواظ عليكما، والمعنى: فإذا انشقت السماء وذابت، وصارت الأرض والجو والسماء كلها نارا، فكيف تنتصران؟
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ، فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ أي فإذا جاء يوم القيامة، انصدعت السماء، وتبددت وصارت كوردة حمراء، وذابت مثل الدهن، أو تلونت كالجلد الأحمر، والمراد أنها تذوب كما يذوب الزيت، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء، أو صفراء، أو زرقاء، أو خضراء، وذلك من شدة الأمر، وهول يوم القيامة.
ونظائر الآية كثير، مثل: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق ٨٤/ ١]، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار ٨٢/ ١]، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١٦]، يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٢٥].
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟
فإن الخبر بذلك فيه رهبة ورعب يزجر السامع عن الشرّ، وبأي نعم الله تكذبان مما يكون بعد ذلك؟
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أي يوم تنشق السماء، لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجنّ عن ذنبه، لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم، ولأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال، وحفظها على العباد. وقال مجاهد في هذه الآية: لا تسأل الملائكة عن المجرمين، بل يعرفون بسيماهم.
وهذا كقوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات ٧٧/ ٣٥- ٣٦]، ثم يسألون بعدئذ في حال أخرى يوم يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم في موقف الحساب، كما قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا

كانُوا يَعْمَلُونَ
[الحجر ١٥/ ٩٢]، وقال سبحانه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات ٣٧/ ٢٤].
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان؟ مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم، ومن هذا التخويف والإنذار المسبق، ليرتدع الناس عن الذنوب، ويثوبوا إلى رشدهم.
ثم أبان الله تعالى سبب عدم السؤال، فقال:
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ، فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ أي يعرف الكفار والفجار يوم خروجهم من القبور بعلاماتهم، وهي كونهم سود الوجوه، زرق العيون، يعلوهم الحزن والكآبة، فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم مجموعا بينهما، فتجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي، وتلقيهم الملائكة في النار. والناصية: مقدّم شعر الرأس. وإفراد فَيُؤْخَذُ مع أن المجرمين جمع، وهم المأخوذون، لأن فَيُؤْخَذُ متعلق بقوله تعالى: بِالنَّواصِي كما يقال: ذهب بزيد.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي النعم تتجرأان على تكذيبها، فقد أنذرتم وحذرتم مسبقا، وعرفتم المصير المنتظر في عالم الآخرة؟
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ها هنا إضمار، أي يقال لهم عند ذلك توبيخا وتأنيبا: هذه نار جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها التي كنتم تكذبون بوجودها، وتنكرون حدوثها، ها هي حاضرة أمامكم ترونها عيانا.
وهم تارة يعذبون في الجحيم للاحتراق، وتارة يسقون من الحميم: وهو الشراب أو الماء المغلي الشديد الحرارة، الذي هو كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء، كقوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي

الْحَمِيمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ
[غافر ٤٠/ ٧١- ٧٢]، وقوله سبحانه:... فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ.. [الحج ٢٢/ ١٩- ٢١].
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي بأي النعم تكذبان بعد هذا البيان والإنذار والاعلام المسبق؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن انشقاق أو تصدع السماء يحدث عقب إرسال الشواظ من النار، وإذا انصدعت السماء صارت في حمرة الورد وذوبان الدهن كالجلد الأحمر الصرف، فالتشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان، والتشبيه بالوردة في اللون.
٢- إن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل الإنس والجن في وقت ولا يسألون في وقت آخر، فلا يسألون وقت خروجهم من القبور، وإذا استقروا في النار، ويسألون في موقف الحساب قبل الصيرورة إلى الجنة أو إلى النار. والمراد من السؤال على المشهور: أنهم لا يقال لهم: من المذنب منكم؟
٣- يتميز الكفار المجرمون والفجار عن المؤمنين بعلامات بارزة، فهم سود الوجوه، زرق العيون، تعلوهم الكآبة والحزن كما تقدم، وتأخذ الملائكة بنواصيهم (أي بشعور مقدم رؤوسهم) وأقدامهم، فيقذفونهم في النار.
٤- يقال للمجرمين تقريعا وتوبيخا، وتصغيرا وتحقيرا: هذه النار التي أخبرتم بها، فكذبتم، ويعذبون مرة في الحميم (الشراب الشديد الحرارة جدا) ومرة في الجحيم (النار).
٥- امتن الله على عباده بقوله بعد كل نعمة: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ