
٣- لا مجال للتكذيب بشيء من نعم الله في التسوية بين الخلق في الموت والفناء، والانتقال إلى دار الجزاء والثواب، وإجابة دعائهم وتحقيق الخير والرزق والمغفرة لهم في الدنيا والآخرة.
الجزاء والثواب على الأعمال في الآخرة
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣١ الى ٣٦]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦)
الإعراب:
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ نُحاسٌ بالرفع: معطوف على قوله شُواظٌ وقرئ بالجر، ولا يجوز عطفه على نارٍ لأن الشواظ لا يكون من النحاس، لأن النحاس هاهنا بمعنى الدخان، وإنما هو محمول على تقدير: شواظ من نار، وشيء من نحاس، فحذف الموصوف لدلالة ما قبله عليه.
البلاغة:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ استعارة تمثيلية، شبه محاسبة الخلائق وجزاءهم يوم القيامة بالتفرغ للأمر، والله تعالى لا يشغله عن شأن، وإنما ذلك على سبيل المثال، إذ شبه تعالى ذاته في المجازاة بحال من فرغ للأمر.
إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا.. فَانْفُذُوا الأمر هنا للتعجيز، فقوله فَانْفُذُوا أمر تعجيزي.

المفردات اللغوية:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، أو سنقصدكم بالفعل وفيه تهديد.
الثَّقَلانِ الإنس والجن. أَنْ تَنْفُذُوا إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض، هاربين من الله، فارّين من قضائه. أَقْطارِ جوانب جمع قطر. فَانْفُذُوا فاخرجوا، وهو أمر تعجيز. لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ. إِلَّا بِسُلْطانٍ بقوة وقهر. شُواظٌ لهب خالص لا دخان فيه. وَنُحاسٌ ودخان لا لهب. فيه. فَلا تَنْتَصِرانِ لا تمتنعان من ذلك العذاب، بل تساقون إلى المحشر.
المناسبة:
بعد بيان النعم التي أنعم الله بها على الإنسان من تعليم العلم وخلقه وخلق السماء والأرض وما أودع فيهما، والإخبار عن فنائها يوم القيامة، أخبر الله تعالى عن مجازاة الناس وحسابهم يوم القيامة، فيجازى كل عامل بما عمل، ويثاب على ما قدم من عمل صالح، ولا مناص ولا مهرب من العقاب، ولا من الامتناع منه.
التفسير والبيان:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم على أعمالكم، أيها الثقلان: الإنس والجن. وسموا الثّقلين، لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا.
وهذا وعيد شديد من الله سبحانه للعباد، علما بأن الله لا يشغله شيء عن شيء.
جاء في الصحيح تفسير الثقلين بما ذكر: «يسمعه كل شيء إلا الثقلين»
وفي رواية: «إلا الإنس والجن»
وفي حديث الصور: «الثقلان: الإنس والجن».
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الثقلين؟
فإن من نعمه إنصاف الخلائق، بإثابة المحسنين، ومعاقبة المجرمين، فلا يظلم أحد شيئا.

ولا إفلات من هذا الجزاء، فقال تعالى:
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فَانْفُذُوا، لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي أيها الإنس والجن، إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره، وأمره وسلطانه، فاخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم، لا تقدرون على التخلص والنفوذ من حكمه إلا بقوة وقهر، ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة، فلا يمكنكم الهرب. والمعشر: الجماعة العظيمة، والأدق أن المعشر: العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فيه.
ونظير الآية: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ، جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، هُمْ فِيها خالِدُونَ [يونس ١٠/ ٢٧].
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان؟ ومن ذلك تقديم التنبيه والتحذير، فذلك يرغّب المحسن، ويرهب المسيء، والله قادر على عقاب الجميع، فلا يفلت أحد، كما أنه تعالى يعفو مع كمال القدرة، وتلك نعمة أخرى. وإنما جمع اسْتَطَعْتُمْ فهو لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى.
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ، وَنُحاسٌ، فَلا تَنْتَصِرانِ أي لو خرجتم يسلّط عليكم أيها الإنس والجن سيل من النار أو لهب خالص لا دخان معه من النار، ودخان مع النار، أو يصب على رؤوسكم نحاس مذاب، فلا تقدرون على الامتناع من عذاب الله. فالنحاس: إما الدخان الذي لا لهب له، أو النحاس المذاب الذي يصب على الرؤوس. وإنما ثنى ضمير عَلَيْكُما فهو لبيان الإرسال على النوعين، لا على كل واحد منهما، ولا على جميع الإنس والجن. وكذلك

تثنية فَلا تَنْتَصِرانِ أراد به النوعين أي لا ينصر بعضكم بعضا أيها الجن والإنس.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن، فإن التهديد لطف، والتمييز بين المطيع والعاصي، بإثابة الأول، والانتقام من الثاني من نعم الله سبحانه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لا بد من الحساب والجزاء على أعمال الناس والجن يوم القيامة، وسيتم القصد بالفعل للمجازاة أو المحاسبة. وهذا وعيد وتهديد من الله لعباده، ليحذروا يوم الحساب، ويرهبوا يوم الجزاء.
٢- الحساب دليل واضح على أن الجن مخاطبون بالتكاليف الشرعية كالإنس تماما، فهم مكلفون مأمورون منهيون، مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك.
٣- لا مفرّ ولا مهرب ولا مناص من الجزاء والحساب على أعمال الإنس والجن، ولا يملكون إطلاقا التخلص والهروب من العذاب إلا بسلطان من الله يجيرهم، وإلا فلا مجير لهم.
والسبب في تقديم الجن على الإنس في هذه الآية: أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن. أما الإتيان بمثل القرآن فهو بالإنس أليق إن أمكن، لذا قدم الإنس على الجن في ذلك، في قوله تعالى: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء ١٧/ ٨٨].