آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ
ﯽﯾﯿﰀﰁ

يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق ﴿ وَسُعُرٍ ﴾ مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذكر من كافر ومبتدع من سائر الفرق، ثم قال تعالى :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ﴾ أي كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار، ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً ﴿ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾، كقوله ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢ ]، وكقوله تعالى ﴿ والذي قَدَّرَ فهدى ﴾ [ الأعلى : ٣ ] أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة، على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذا الآية وبما شاكلها على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة، روى أحمد، عن أبي هريرة قال :« جاء مشركو قريش إلى النبي صلى عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ » وعن نعطاء بن أبي رباح قال : أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له : قد تُكلَّمَ في القدر، فقال : أو قد فعلوها؟ قلت : نعم. قال : فوالله ما نزلت هذه الآية إلاّ فيهم :﴿ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال :« لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذي لا يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم » وقال رسول الله ﷺ :« كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ».
وفي الحديث الصحيح :« استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل : قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان » وروى الإمام أحمد، عن الوليد بن عبادة قال :« دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال : أجلسوني، فلما أجلسوه. قال : يا بني إنك لن تطعم الإيمان ولن تبلغا حق حقيقة العلم بالله، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت : يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن لخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله ﷺ يقول :» إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له : اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة «، يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار »

صفحة رقم 2449

وقد ثبت في « صحيح مسلم »، عن عبد الله بن عمرو قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة »، زاد ابن وهب :﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء ﴾ [ هود : ٧ ]. وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ وهذا إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه، كما أخبر بنفوذ قدره فيهم، فقال :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ ﴾ أي إنما نأمر بالشيء مرة واحدة، لا نحتاج إلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك موجوداً كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين، وما أحسن ما قال بعض الشعراء :

إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له كن قوله فيكون
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ ﴾ يعني أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، ﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ ؟ أي فهل من متعظ بما أخرى الله أولئك، وقدَّر لهم من العذاب، كما قال تعالى :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ﴾ [ سبأ : ٥٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر ﴾ أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام، ﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ﴾ أي من أعمالهم ﴿ مُّسْتَطَرٌ ﴾ أي مجموع عليهم ومسطّر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وقد روى الإمام أحمد، عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال :« يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً » وقوله تعالى :﴿ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴾ أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسعر، والسحب في النار على وجوههم، مع التوبيخ والتقريع والتهديد، وقوله تعالى :﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ﴾ أي في دار كرامة الله ورضوانه، وفضله وامتنانه، وجوده وإحسانه ﴿ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ أي عند الملك العظيم، الخالق للأشياء كلها ومقدرها، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون، وقد روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي ﷺ قال :« المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ».

صفحة رقم 2450
تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد نسيب بن عبد الرزاق بن محيي الدين الرفاعي الحلبي
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية