
تَعَلُّقٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ مَنْ يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا حَصَلَ زَيْدٌ الْيَوْمَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ مَا نَفْهَمُهُ مِنْ قَوْلِنَا خَرَجَ زَيْدٌ الْيَوْمَ فِي أَحْسَنِ زِيٍّ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَفْهَمَ مِنْ قَوْلِنَا: كَانَ زَيْدٌ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ مِثْلَ مَا فَهِمَ هُنَاكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْفِعْلُ الْمَاضِي يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يُوجَدُ فِي الزَّمَانِ الْمُتَّصِلِ/ بِالْحَاضِرِ، كَقَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ فِي صِبَاهُ، وَيُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يُوجَدُ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ كَقَوْلِنَا قَامَ زَيْدٌ فَقُمْ وَقُمْ فَإِنَّ زَيْدًا قَامَ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كَانَ رُبَّمَا يُقَالُ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا عَامَ كَذَا وَرُبَّمَا يُقَالُ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا الْآنَ كَمَا فِي قَامَ زَيْدٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكانُوا فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاضِي فِيمَا اتَّصَلَ بِالْحَالِ فَهُوَ كَقَوْلِكَ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ فَمَاتُوا أَيْ مُتَّصِلًا بِتِلْكَ الْحَالِ، نَعَمْ لَوِ اسْتُعْمِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَارَ يَجُوزُ لَكِنْ كَانَ وصار كُلُّ وَاحِدٍ بِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ حَمْلُ كَانَ عَلَى صَارَ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُوَ كَذَا كَمَا فِي الْبَيْتِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْبُيُوضُ فِرَاخٌ، وَأَمَّا هُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُمْ كَهَشِيمٍ وَلَوْلَا الْكَافُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ حَمْلُ كَانَ عَلَى صَارَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمُ انْقَلَبُوا هَشِيمًا كَمَا يُقْلَبُ الْمَمْسُوخُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْهَشِيمُ؟ نَقُولُ هُوَ الْمَهْشُومُ أَيِ الْمَكْسُورُ وَسُمِّيَ هَاشِمٌ هَاشِمًا لِهَشْمِهِ الثَّرِيدِ فِي الْجِفَانِ غَيْرَ أَنَّ الْهَشِيمَ اسْتُعْمِلَ كَثِيرًا فِي الْحَطَبِ الْمُتَكَسِّرِ الْيَابِسِ، فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانُوا كَالْحَشِيشِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْحَظَائِرِ بَعْدَ الْبِلَا بِتَفَتُّتٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الْكَهْفِ: ٥٤] وَهُوَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ جَرِيحًا وَمِثْلُهُ السَّعِيرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِمَاذَا شَبَّهَهُمْ بِهِ؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِكَوْنِهِمْ يَابِسِينَ كَالْحَشِيشِ بَيْنَ الْمَوْتَى الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ زَمَانٍ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: سَمِعُوا الصَّيْحَةَ فَكَانُوا كَأَنَّهُمْ مَاتُوا مِنْ أَيَّامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُمُ انْضَمُّوا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَمَا يَنْضَمُّ الرُّفَقَاءُ عِنْدَ الْخَوْفِ دَاخِلِينَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَاجْتَمَعُوا بعضهم فَوْقَ بَعْضٍ كَحَطَبِ الْحَاطِبِ الَّذِي يَصُفُّهُ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ مُنْتَظِرًا حُضُورَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّ الْحَطَّابَ الَّذِي عِنْدَهُ الْحَطَبُ الْكَثِيرُ يَجْعَلُ مِنْهُ كَالْحَظِيرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبَيَانِ كَوْنِهِمْ فِي الْجَحِيمِ أَيْ كَانُوا كَالْحَطَبِ الْيَابِسِ الَّذِي لِلْوَقِيدِ فَهُوَ مُحَقِّقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: ٩٨] وقوله تعالى: كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الْجِنِّ: ١٥] وَقَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: ٢٥] كَذَلِكَ مَاتُوا فَصَارُوا كَالْحَطَبِ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْإِحْرَاقِ لِأَنَّ الْهَشِيمَ لَا يَصْلُحُ للبناء. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (٥٤) : آية ٣٢]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢)
والتكرار للتذكار. ثم بين حال قوم آخرون وهم قوم لوط فقال:
[سورة القمر (٥٤) : آية ٣٣]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣)
ثُمَّ بَيَّنَ عَذَابَهُمْ وإهلاكهم، فقال:
[سورة القمر (٥٤) : آية ٣٤]
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: الْحَاصِبُ فَاعِلٌ مِنْ حَصَبَ إِذَا رَمَى الْحَصْبَاءَ وَهِيَ اسْمُ الْحِجَارَةِ وَالْمُرْسَلُ عَلَيْهِمْ/ هُوَ نَفْسُ

الْحِجَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الْحِجْرِ: ٧٤] وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ:
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذَّارِيَاتِ: ٣٣] فَالْمُرْسَلُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِحَاصِبٍ فَكَيْفَ الْجَوَابُ عَنْهُ؟ نَقُولُ:
الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا حَاصِبًا بِالْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْحَصْبَاءُ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْحَاصِبِ فِي الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ فَأَقَامَ الصِّفَةَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ الرِّيحَ مُؤَنَّثَةٌ قَالَ تَعَالَى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: ٦]، بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُسَ: ٢٢] وَقَالَ تَعَالَى:
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ [ص: ٣٦] وَقَالَ تَعَالَى: غُدُوُّها شَهْرٌ [سَبَأٍ: ١٢] وَقَالَ تَعَالَى فِي:
[وَأَرْسَلْنَا] الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر: ٢٢] وَمَا قَالَ لِقَاحًا وَلَا لِقْحَةً، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مُسَوَّمَةً عَلَيْهَا عَلَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَهِيَ لَا تُسَمَّى حَصْبَاءُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا بِالرِّيحِ، نَقُولُ: تَأْنِيثُ الرِّيحِ لَيْسَ حَقِيقَةً وَلَهَا أَصْنَافٌ الْغَالِبُ فِيهَا التَّذْكِيرُ كَالْإِعْصَارِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٦٦] فَلَمَّا كَانَ حَاصِبُ حِجَارَةٍ كَانَ كَالَّذِي فِيهِ نَارٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَانَ الرَّمْيُ بِالسِّجِّيلِ لَا بِالْحَصْبَاءِ، وَبِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا بِالرِّيحِ، فَنَقُولُ: كُلُّ رِيحٍ يَرْمِي بِحِجَارَةٍ يُسَمَّى حَاصِبًا، وَكَيْفَ لا والسحاب الذي يأتي بالبرد يسمى حاصبا تَشْبِيهًا لِلْبَرَدِ بِالْحَصْبَاءِ، فَكَيْفَ لَا يُقَالُ فِي السِّجِّيلِ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ حَرَّكُوا الرِّيحَ وَهِيَ حَصَبَتِ الْحِجَارَةَ عَلَيْهِمْ الْجَوَابُ الثَّانِي: الْمُرَادُ عَذَابٌ حَاصِبٌ وَهَذَا أَقْرَبُ لِتَنَاوُلِهِ الْمَلَكَ وَالْحِسَابَ وَالرِّيحَ وَكُلَّ مَا يُفْرَضُ الْجَوَابُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: حاصِباً هُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْكُلِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَرْسَلْنا يَدُلُّ عَلَى مُرْسَلٍ هُوَ مُرْسَلُ الْحِجَارَةِ وَحَاصِبِهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ حَاصِبِينَ، نَقُولُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ رَجَّحَ جَانِبَ اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قَالَ شَيْئًا حَاصِبًا إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ جِنْسِ الْعَذَابِ لَا بَيَانُ مَنْ عَلَى يَدِهِ الْعَذَابُ، وَهَذَا وَارِدٌ عَلَى مَنْ قَالَ: الرِّيحُ مُؤَنَّثٌ لِأَنَّ تَرْكَ التَّأْنِيثِ هُنَاكَ كَتَرْكِ عَلَامَةِ الْجَمْعِ هُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَتَّبَ الْإِرْسَالَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْفَاءِ فَلَمْ يَقُلْ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ فَأَرْسَلْنَا كَمَا قَالَ:
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [الْقَمَرِ: ١١] لِأَنَّ الْحِكَايَةَ مَسُوقَةٌ عَلَى مَسَاقِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحِكَايَاتِ، فَكَأَنَّهُ قال:
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: ٣٠] كَمَا قَالَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ قِيلَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ وَإِنَّمَا أَنْتَ الْعَلِيمُ فَأَخْبِرْنَا، فَقَالَ:
إِنَّا أَرْسَلْنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ الْعَذَابِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي كَمَا قَالَ فِي الْحِكَايَاتِ الثَّلَاثِ، نَقُولُ: لِأَنَّ التَّكْرَارَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بَالِغٌ، وَلِهَذَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا هَلْ بلغت ثلاثا»
وقال: «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ»
وَالْإِذْكَارُ تَكَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَبِثَلَاثِ مِرَارٍ حَصَلَ التَّأْكِيدُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي فِي حِكَايَةِ نُوحٍ لِلتَّعْظِيمِ وَفِي حِكَايَةِ ثَمُودَ لِلْبَيَانِ وَفِي حِكَايَةِ عَادٍ أَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ وَالْبَيَانِ جَمِيعًا وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي فِي ثَلَاثِ حِكَايَاتٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لِلْإِنْذَارِ، وَالْمَرَّاتُ الثَّلَاثُ لِلْإِذْكَارِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: ١٣] ذَكَرَهُ مَرَّةً لِلْبَيَانِ وَأَعَادَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً غَيْرَ الْمَرَّةِ الْأُولَى كَمَا أَعَادَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَيْرَ الْمَرَّةِ/ الْأُولَى فَكَانَ ذِكْرُ الْآلَاءِ عَشَرَةَ أَمْثَالِ ذِكْرِ الْعَذَابِ إِشَارَةً إِلَى الرَّحْمَةِ الَّتِي قَالَ فِي بَيَانِهَا مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: ١٦٠] وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ: الرَّحْمَنِ.
المسألة الرابعة: إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء مما ذا؟ إِنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً