
﴿علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾ ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدٌ الْقُوَى﴾ يعني: جبريل في قول الجميع. ﴿ذو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ فيه خمسة أوجه:
صفحة رقم 391
أحدها: ذو منظر حسن، قاله ابن عباس. الثاني: ذو غناء، قاله الحسن. الثالث: ذو قوة، قاله مجاهد وقتادة، ومن قول خفاف بن ندبة:
(إني امرؤ ذو مرة فاستبقني | فيما ينوب من الخطوب صليب) |
(كنت فيهم أبداً ذا حيلة | محكم المرة مأمون العقد) |
(قد كنت عند لقاكم ذا مرة | عندي لكل مخاصم ميزانه) |
(أخذنا بآفاق السماء عليكم | لنا قمراها والنجوم والطوالع) |

الثاني: أنه الرب، قاله ابن عباس. وقوله ﴿فَتَدَلَّى﴾ فيه وجهان: أحدهما: تعلق فيما بين والسفل لأنه رآه منتصباً مرتفعاً ثم رآه متدلياً، قاله ابن بحر. الثاني: معناه قرب، ومنه قوله تعالى: ﴿وَتُدلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ أي تقربوها إليهم، وقال الشاعر:
(أتيتك لا أدلي بقربى قريبة | إليك ولكني بجودك واثق) |

أحدهما: أنه أراد صاحب الفؤاد فعبر عنه بالفؤاد لأنه قطب الجسد وقوام الحياة. الثاني: أنه أرد نفس الفؤاد لأنه محل الإعتقاد وفيه قولان: أحدهما: معناه ما أوهمه فؤداه ما هو بخلافه كتوهم السراب ماء، فيصير فؤاده بتوهم المحال كالكاذب له، وهو تأويل من قرأ ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ﴾ بالتخفيف. الثاني: معناه ما أنكر قلبه ما رأته عينه، وهو تأويل من قرأ ﴿كَذَّبَ﴾ بالتشديد. وفي الذي رأى خمسة أقاويل: أحدها: رأى ربه بعينه، قاله ابن عباس. الثاني: في المنام، قاله السدي. الثالث: أنه بقلبه روى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله [هل رأيت ربك]؟ قال: (رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ) ثم قرأ: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾. الرابع: أنه رأى جلاله، قاله الحسن، وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله ﷺ قال: (رَأَيتُ نَهْرَاً وَرَأَيتُ وَرَاءَ النَّهْرِ حَجَاباً ورَأَيتُ وَرَاءَ الحِجَابِ نُوراً لَمْ أَرَ غَيَرَ ذَلِكَ). الخامس: أنه رأى جبريل على صورته مرتين، قاله ابن مسعود. ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أفتجادلونه على ما يرى، قاله إبراهيم. الثاني: أفتجادلونه على ما يرى، وهو مأثور.
صفحة رقم 394
الثالث: أفتشككونه على ما يرى، قاله مقاتل. ﴿وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ يعني أنه رأى ما رآه ثانية بعد أُولى، قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى عليهما السلام، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين. ﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى﴾ روي فيها خبران. أحدهما: ما روى طلحة بن مصرف عن مرة عن ابن مسعود قال: لما أسري بالنبي ﷺ انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها الخبر. الثاني: ما رواه معمر عن قتادة عن أنس أن النبي ﷺ قال: (رُفِعَتْ لِيَ سِدْرَةُ الْمُنتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، ثَمَرُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجْرٍ، وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَة، يَخْرُجُ مِن سَاقِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بِاطِنَانِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ البَاطِنَانِ فَفِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا النَّهْرانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالفُرَاتُ). وفي سبب تسميتها سدرة المنتهى خمسة أوجه: أحدها: لانه ينتهي علم الأنبياء إليها، ويعزب علمهم عما وراءها، قاله ابن عباس. الثاني: لأن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله الضحاك. الثالث: لانتهاء الملائكة والنبيين إليها ووقوفهم عندها، قاله كعب. الرابع: لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة رسول الله ﷺ ومنهاجه، قاله الربيع بن أنس.
صفحة رقم 395
الخامس: لأنه ينتهي إليها كل ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها، قاله ابن مسعود. ﴿عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ فيه قولان: أحدهما: جنة المبيت والإقامة، قاله علي، وأبو هريرة. الثاني: أنها منزل الشهداء، قاله ابن عباس، وهي عن يمين العرش وفي ذكر جنة المأوى وجهان على ما قدمناه في سدرة المنتهى: أحدهما: أن المقصود بذكرها تعريف موضعها بأنه عند سدرة المنتهى، قاله الجمهور. ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي يغشاها فراش من ذهب، قاله ابن مسعود ورواه مرفوعاً. الثاني: أنهم الملائكة، قاله ابن عباس. الثالث: أنه نور رب العزة، قاله الضحاك. فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية، فظلها بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ في زيغ البصر ثلاثة أوجه؛ أحدها: انحرافه. الثاني: ذهابه، قاله ابن عباس. الثالث: نقصانه، قاله ابن بحر. وفي طغيانه ثلاثة أوجه: أحدها: ارتفاعه عن الحق. الثاني: تجاوزه للحق، قاله ابن عباس.
صفحة رقم 396
الثالث: زيادته، ويكون معنى الكلام أنه رأى ذلك على حقه وصدقه من غير نقصان عجز عن إدراكه، ولا زيادة توهمها في تخليه، قاله ابن بحر. ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما غشي السدرة من فراش الذهب، قاله ابن مسعود. الثاني: أنه قد رأى جبريل وقد سد الأفق بأجنحته، قاله ابن مسعود أيضاً. الثالث: ما رأه حين نامت عيناه ونظر بفؤاده، قاله الضحاك.
صفحة رقم 397