آيات من القرآن الكريم

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ
ﭑﭒﭓ ﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫ

إثبات النبوة وظاهرة الوحي
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
الاعراب:
إِذا هَوى ظرف لفعل «أقسم» المقدر، والمراد ب إِذا هنا مطلق زمان.
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى جملة في جواب سؤال مقدر نشأ بعد قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الواو في وَهُوَ: واو الحال، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر: في موضع نصب على الحال من ضمير فَاسْتَوى أي استوى عاليا، يعني جبريل.
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى كذب بالتخفيف، فتكون ما في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ما كذب الفؤاد فيما رأى. وما: إما بمعنى الذي، ورَأى الصلة، والهاء المحذوفة العائد، أي رآه، فحذف الهاء تخفيفا، وإما مصدرية. وقرئ كَذَبَ بالتشديد، فتكون ما مفعولا به، من غير تقدير حذف حرف جر، لأنه متعد بنفسه.
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى نَزْلَةً: منصوب على المصدر في موضع الحال، كأنه قال: رآه نازلا نزلة أخرى، وذهب الفرّاء إلى أنه منصوب على الظرف، إذ معناه: مرة أخرى.

صفحة رقم 95

البلاغة:
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
إبهام الموحى به للتعظيم والتهويل، ومثله: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم ٥٣/ ١٦] وكذلك فَغَشَّاها ما غَشَّى [النجم ٥٣/ ٥٤].
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى.. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى بين هوى والهوى جناس، فالأول بمعنى خرّ وسقط، والثاني بمعنى هوى النفس.
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى جملة يوحى لدفع المجاز وتأكيد الإيحاء.
المفردات اللغوية:
وَالنَّجْمِ جنس النجوم، أو الثريا، فإنه غلب فيه إذا غرب أو انتثر يوم القيامة، والواو للقسم. هَوى غرب وسقط. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل محمد ﷺ عن طريق الهداية المستقيم. وَما غَوى ما وقع في الغي: وهو الجهل مع الاعتقاد الفاسد، وهو الجهل المركب، والمراد: ما اعتقد باطلا قط، والخطاب في هذا لقريش. والمراد: نفي ما ينسبون إليه.
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ما يتكلم بالقرآن عن الهوى أي بالباطل. إِنْ هُوَ أي ما القرآن أو الذي ينطق به. إِلَّا وَحْيٌ يُوحى وحي يوحيه الله إليه.
عَلَّمَهُ إياه ملك. شَدِيدُ الْقُوى صاحب القوى الشديد، وهو جبريل عليه السلام. ذُو مِرَّةٍ ذو قوة وحصافة في عقله ورأيه. فَاسْتَوى فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها، ورآه عليها محمد ﷺ مرتين: مرة في السماء، ومرة في الأرض عند غار حراء في بدء النبوة.
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أفق السماء وهو الجهة العليا بالنسبة للناظر، والضمير لجبريل. ثُمَّ دَنا قرب من النبي صلى الله عليه وسلم. فَتَدَلَّى زاد في القرب ونزل وتعلق به، وهو تمثيل لعروجه بالرسول صلى الله عليه وسلم. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي فكان جبريل على مقدار قوسين أو أقرب من ذلك، والمراد به هنا مقدار ما بين مقبض القوس والسّية: وهي ما عطف من طرفيها، ولكل قوس قابان: طرفان. والخلاصة: فكان مقدار مسافة قربه منه مثل مقدار مسافة قاب قوسين. والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحي إليه، بنفي البعد الموقع في اللبس والغموض.
فَأَوْحى
الله تعالى. إِلى عَبْدِهِ
جبريل. ما أَوْحى
جبريل إلى النبي ﷺ ولم يذكر الموحى به تفخيما لشأنه، أو فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أي ما أنكر فؤاد النبي ﷺ ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام.
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أفتجادلونه وتغلبونه وتكذبونه على ما يراه معاينة، من المراء:

صفحة رقم 96

وهو الجدال بالباطل. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى رأى محمد جبريل على صورته الحقيقية مرة أخرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى أعلى مكان في السماء، ينتهي إليها علم الخلائق وأعمالهم، شبّهت بالسدرة: وهي شجرة النبق، لأنهم يجتمعون في ظلها. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين المتقين. إِذْ حين. يَغْشَى يغطي ويستر. ما يَغْشى تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يحيط بها وصف ولا عدد. ما زاغَ الْبَصَرُ ما مال بصر رسول الله ﷺ عما رآه.
وَما طَغى وما تجاوز ما أمر به تلك الليلة. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي رأى في تلك الليلة- ليلة المعراج- بعض آيات ربه العظمى، وعجائب الملكوت، كرؤية جبريل حينما سدّ أفق السماء بما له من ست مائة جناح.
التفسير والبيان:
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى أي أقسم بالنجم أي بالنجوم عند ما تميل للغروب، إذ بالميل إلى الأفق تعرف الجهات، ما عدل محمد ﷺ عن طريق الهداية والحق، وما صار غاويا متكلما بالباطل، وقيل:
النجم: الثريا إذا سقطت مع الفجر. روى ابن أبي حاتم عن الشعبي وغيره قال:
الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق.
وقد عرض الرازي مقارنة في المقسم به والمقسم عليه بين هذه السورة والسور المتقدمة، فذكر أن السور التي تقدمت وهي والصافات والذاريات والطور وهذه السورة كان القسم فيها بالأسماء دون الحروف، أقسم الله في الأولى لإثبات الوحدانية: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. وفي الثانية لإثبات الحشر والجزاء: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وفي الثالثة لإثبات دوام العذاب بعد وقوعه يوم القيامة:
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ. وفي هذه السورة لإثبات نبوة محمد ﷺ فاكتملت الأصول الثلاثة: الوحدانية، والحشر، والنبوة «١».
ويلاحظ أن القسم على الوحدانية والنبوة قليل في القرآن، والقسم على إثبات البعث كثير، كما في سورة الذاريات، والطور، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى،

(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ٢٧٧

صفحة رقم 97

وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، وغير ذلك، لأن دلائل الوحدانية كثيرة، وكلها عقلية كما قيل:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
ودلائل النبوة والرسالة أيضا كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة، أما البعث فإمكانه يثبت بالعقل، وأما وقوعه فلا يثبت إلا بالأدلة السمعية أو النقلية وهي القرآن والحديث، لذا أكثر الله تعالى في القرآن بالقسم عليه ليؤمن به الناس.
ونظير الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة ٥٦/ ٧٥- ٨٠].
والحكمة في القسم بالنجوم أنه عالم رهيب، سواء في السرعة أو في الحجم، أو في النوع، فسرعة نور الكواكب ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية، أي أن النور يجري حول الأرض في سبع ثانية مرة واحدة، والشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاث مائة ألف مرة، وهي وا؟ حد من ثلاثين ألف مليون شمس، والنظام الشمسي والكواكب السيارة الإحدى عشرة جزء من عالم المجرّة، والمجرّة ذات نجوم بنحو ٣٠ ألف مليون نجم، منها ما هو أكبر من الشمس، والمجرة عادة تشبه قرصا مفرطحا، ويبلغ قطر المجرّة التي تنتمي إليها ١٠٠ ألف سنة ضوئية «١»، وإن

(١) السنة الضوئية تساوي ٦ ملايين ميل. وقد أشار تقرير حول أعمال الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية لعلم الفلك في مدينة (أوستن) - (ولاية تكساس) إلى أن علماء الفلك الأمريكيين رصدوا مجرتين هما الأقدم والأبعد عن الأرض بين كل تلك التي رصدت إلى اليوم.
وأوضح التقرير أن هاتين المجرتين تقعان على بعد ١٧ مليار سنة ضوئية عن الأرض، وأنهما تكونتا إبان الانفجار الكبير (بيج بانج) الذي يقال: إنه أسفر عن نشوء الكون، والمجرتان على حد ما جاء في التقرير هما أبعد وأقدم من إشعاعات (كازار) التي تشبه النجوم، وتبعث إشعاعا كهربائيا ومغناطيسيا قويا.

صفحة رقم 98

التحام قوة الجاذبية بين المجرّات بالكميات الهائلة من الغازات والمواد الموجودة فيها يحوّل ما يعرف بالفجوات السوداء في وسط هذه المجرّات الفضائية إلى شهب مشتعلة، تحدث نادرا في ظروف مئات الملايين من السنين. والشهب أشبه بالنجوم إلا أنها تصدر إشعاعات مغناطيسية تفوق في طاقتها ما يصدر عن النجوم العادية المعروفة بالإشعاعات، وبعد الشهب عن الأرض بمسافة عشرة آلاف مليون سنة ضوئية.
وقد أوضحت سابقا أن الشمس على مدار السنة تتنقل في اثني عشر برجا، وتوجد في كل برج لمدة شهر حيث تتم دورتها السنوية في اثني عشر شهرا (٣٦٥ يوما وست ساعات وتسع دقائق وعشر ثوان). ويطلق على هذه السنة: السنة النجمية التي تبدأ في ٢١ آذار (مارس). وللقمر بروج أيضا تسمى منازل القمر، يقيم فيها كل يوم في منزل جديد، ويستمر بالتنقل على مدار الشهر ما بين ٢٩ أو ٣٠ منزلا، يسمى المنزل الأخير محاقا، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس ١٠/ ٥] وتدل آية لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر ٤٠/ ٥٧] على أن الإعجاز القرآني في الفلك أكبر من الإعجاز القرآني في الطب والإنسان، وقد طلب الله منا أن نمعن النظر في آياته الكونية، ونكتشف ظواهر الكون «١».

(١) في يوم الأربعاء الموافق ١٢ نيسان (أبريل) لعام ١٩٦١ قامت أول مركبة فضائية تحمل بشرا وتدور حول كوكب الأرض، بقيادة رائد الفضاء جاجارين من الاتحاد السوفييتي، وكان أول سؤال وجهه إليه الصحفيون الروس هو: هل وجدت الله؟ فأجاب بمنطق الإلحاد المطلق المعروف بأنه لم يجد الله. ثم تلاه رائد فضاء سوفييتي آخر اسمه (تيتوف) استمر في الفضاء لمدة أطول من رفيقه (جاجارين) فلما عاد إلى الأرض، سئل: هل وجدت الله؟ فأجاب:
«نعم، لقد وجدت عظمة الخالق، وفي عمله الجبار بالسيطرة على قوانين الجاذبية بين الأرض والقمر والشمس».

صفحة رقم 99

لهذه الأهمية للنجوم أقسم الله بها على أن محمدا ﷺ ليس بضال تائه عن الحق، ولا غاو يعدل عن الحق، وسبب رشده وعدم ضلاله وغوايته ما قال تعالى:
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي ما يقول قولا عن هوى وغرض، وما ينطق بالقرآن عن هواه الشخصي، إنما ينطق بوحي من الله أوحاه إليه، ويبلّغ ما أمر به كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ﷺ ورسول الله بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال:
«اكتب، فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق».
وأخرج الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «ما أخبرتكم أنه من عند الله، فهو الذي لا شك فيه».
وأخرج أحمد عن أبي هريرة أيضا عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لا أقول إلا حقا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: إني لا أقول إلا حقا».
ثم أخبر الله تعالى عن معلّم رسول الله ﷺ وهو جبريل عليه السلام:
فقال:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أي علّم القرآن النبيّ جبريل الذي هو شديد قواه العلمية والعملية، وهو ذو قوة وشدة في الخلق، وذو حصافة في العقل، ومتانة في الرأي، وقد استقام جبريل على

صفحة رقم 100

صورته التي خلقه الله عليها، حين أحب النبي ﷺ رؤيته كذلك، فظهر له في الأفق الأعلى أي في الجهة العليا من السماء، وهو أفق الشمس، فسدّ الأفق عند ما جاء بالوحي إلى النبي ﷺ أول ما جاءه بالوحي.
ونظير الآيات عن جبريل قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير ٨١/ ١٩- ٢٣].
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى أي استوى واعتدل جبريل بالأفق الأعلى أولا، ثم قرب من الأرض، وازداد في القرب والنزول، حتى نزل على النبي ﷺ فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد ﷺ من المسافة مقدار قوسين أو أقل من قوسين، فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد ﷺ ما أوحاه من القرآن في تلك النزلة، من شؤون الدين. وقيل: فأوحى الله إلى محمد ﷺ عبده ما أوحى، وفيه تفخيم لشأن الوحي.
وهذا كان ورسول الله ﷺ في الأرض، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال تعالى بعده: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى.
روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود، قال في هذه الآية: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل له ست مائة جناح».
وقال عن رؤية جبريل حقيقة لا تخيلا:
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي ما أنكر فؤاد النبي ﷺ ما رآه من صورة جبريل، وإنما كان فؤاده صادقا، فتكون عينه أصدق، فكيف تجادلونه وتكذبونه فيما رآه بعينه رؤية مشاهدة محسوسة من صورة جبريل عليه السلام؟! والأشهر أن لام الْفُؤادُ للعهد، وهو فؤاد

صفحة رقم 101

محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقل فؤاده لما رآه: لم أعرفك، وصدّق فؤاده ما عاينه، ولم يشك في ذلك، ولم يقل: إنه جن أو شيطان.
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي لقد رأى محمد ﷺ جبريل نازلا مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها، وذلك ليلة الإسراء، عند سدرة المنتهى التي هي في رأي الأكثرين وهو المشهور: شجرة في السماء السابعة، وجاء في الصحيح أنها في السماء السادسة، وإليها ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها، وعندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين. والصحيح كما تقدم في سورة الإسراء: أن المعراج كان بالروح والجسد، وليس بالروح فقط كما يرى بعضهم، وإلا لما كان المعراج معجزة.
فتكون رؤية النبي ﷺ جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية مرتين:
مرة في الأرض ومرة في السماء، وأما في غير هاتين المرتين، فكان يراه في صورة إنسان، لأن عليه أيسر وأهون وأكثر أنسا.
وعلى هذا يكون ضمير رَآهُ ليس راجعا إلى الله تعالى، بل إلى جبريل عليه السلام، فالآية تنفي أن يكون ﷺ رأى ربه سبحانه مطلقا، ويؤكده قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام ٦/ ١٠٣] وقوله سبحانه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى ٤٢/ ٥١].
وقال بعضهم: الضمائر في دَنا، وفَتَدَلَّى و (كان) و (أوحى) وكذا في رَآهُ: لله عز وجل، ويشهد لهذا ما أخرجه البخاري عن أنس:
«ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة». والراجح هو الرأي الأول بدليل
ما أخرجه مسلم عن أبي ذر أنه

صفحة رقم 102

سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: «رأيت نورا» «١»
وأما سدرة المنتهى فنؤمن بها كما جاء في ظاهر القرآن، دون تعيين مكانها وأوصافها إلا بما
جاء في الحديث الصحيح، روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: «لما أسري برسول الله ﷺ انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها..».
ورواية مسلم في صحيحة عن ابن مسعود: «.. وهي في السماء السادسة».
وفي رواية أخرى لمسلم عن أنس أن النبي ﷺ قال: «لما رفعت إلى سدرة المنتهى، في السماء السابعة، نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة..»
والنّبق: ثمر السّدر، الواحدة: نبقة «٢».
وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول- وقد ذكر له سدرة المنتهى- قال: «يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة، أو يستظل بظلها مائة راكب «٣»، فيها فراش «٤» الذهب، كأن ثمرها القلال».
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى أي تلك السدرة التي يحيط بها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله ما يحيط، مما لا يحصره وصف ولا عدد. وهذا في رأي الأكثرين يشعر بالتعظيم والتكثير.

(١) تفسير الألوسي: ٢٧/ ٥٢ وما بعدها.
(٢) ويقال: نبق بفتح النون وسكون الباء، وهي لغة المصريين، وكسر الباء أفصح.
(٣) شك من الراوي.
(٤) الفراش: دويبة ذات جناحين، تتهافت في ضوء السراج، واحدتها فراشة.

صفحة رقم 103

ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي ما مال بصر النبي ﷺ عما رآه، وما تجاوز ما رأى، فرؤية جبريل وغيره من مظاهر ملكوت الله رؤية عين، وليست من خدع البصر، وهذا يؤكد أن المعراج كان بالروح والجسد.
لقد رأى في ليلة المعراج من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف، وهو جبرائيل على صورته، وسائر عجائب الملكوت. وهذا كقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء ١٧/ ١] دون تحديد المرئي للإشارة إلى تعظيمه وتفخيمه وأهميته. روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أنه قال في الآية: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق «١». وعن ابن زيد: أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لله تعالى أن يقسم بما شاء، على ما شاء، في أي وقت يشاء، وقد أقسم بالنجوم (على أن اللام للجنس) أو بالثريا (على أن اللام لتعريف العهد) والعرب تسمي الثّريا نجما، وإن كانت في العدد نجوما. وأقسم به وقت هويّه وغروبه لأنه الوقت الذي يستفاد منه لمعرفة الجهات، أما إذا كان في وسط السماء، فيكون بعيدا عن الأرض، لا يهتدي به الساري، فإذا مال إلى الغروب تبين جانب المغرب من المشرق، والجنوب من الشمال.
٢- المقسم عليه الشهادة للنبي ﷺ بأنه راشد تابع للحق ليس بضال، والضال: الذي يسير على غير هدى بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره، والضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد. وبه نزّه

(١) قال ابن عباس أيضا: رأي رفرفا أخضر سدّ أفق السماء.

صفحة رقم 104

الله تعالى رسوله ﷺ وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كاليهود والنصارى.
٣- القرآن الكريم ليس كلاما للرسول ﷺ وإنما هو وحي صادر من الله عز وجل.
٤- قد يحتج بقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى من لا يجوّز لرسول الله ﷺ الاجتهاد في الحوادث، وهذا خطأ، لأن المراد بالآية إثبات كون القرآن وحيا من عند الله، والقرآن ذاته أمره بالاجتهاد، وقد اجتهد ﷺ في الحروب فيما لم يحرمه الله، وأذن لبعض المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، فعاتبه ربه بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة ٩/ ٤٣].
٥- كان الوحي من الله تعالى على قلب نبيه ﷺ بوساطة جبريل، لقوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل في قول سائر المفسرين، سوى الحسن، فإنه قال: هو الله عز وجل.
وقد وصف الله جبريل بأنه ذو قوة فائقة علما وعملا وحصافة في العقل ومتانة في الرأي.
٦- رأى النبي ﷺ جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية مرتين: مرة بدأت في أفق السماء، حينما استوى واستقام كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي العلوي، فسد المشرق لعظمته.
ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى، من الأرض، فنزل بالوحي على النبي ﷺ بالوحي. وهذه هي المرة الأولى للرؤية، والنبي على الأرض. وكان جبريل قريبا من النبي ﷺ بمقدار مسافة قوسين عربيتين أو أقل من ذلك.
٧- لقد أوحى الله إلى محمد ﷺ عبده ورسوله ما أوحى، ولم يبين الموحى به تفخيما لشأن الوحي، أو أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم،

صفحة رقم 105

أو أوحى جبريل إلى محمد ﷺ ما أوحاه الله إليه وكلمه به. وعلى كل حال مصدر الوحي الأصلي هو الله تعالى، وجبريل واسطة، ومحمد ﷺ الموحى إليه.
والوحي: إلقاء الشيء بسرعة.
٨- لم يكذب قلب محمد ﷺ ليلة المعراج ما رآه من جبريل على صورته الحقيقية وآيات الله الإلهية العجيبة، وهي رؤية حقيقية بالبصر، وقيل: إنه رأى ما رآه بقلبه.
٩- أنكر الله على كفار قريش ما أخبر به النبي ﷺ ليلة المعراج، فقال:
كيف تجادلونه وتوردون شكوكم عليه، مع أنه رأى ما رأى عين اليقين؟! ١٠- لقد رأى النبي ﷺ جبريل عليه السلام مرة أخرى عند سدرة المنتهى (وهي شجرة النّبق، وهي في السماء السادسة، أو في السماء السابعة، التي لا يحيط بها وصف) عند جنة المأوى التي تأوي إليها أرواح الملائكة والشهداء والمتقين، وينتهي إليها علم الأنبياء، ويعزب علمهم عما وراءها، كما قال ابن عباس.
قال ابن مسعود فيما ذكره المهدوي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل بالأفق الأعلى، له ست مائة جناح، يتناثر من ريشه الدر والياقوت».
والذي يغشى السدرة مبهم للتفخيم والتعظيم، مثل أنوار الله تعالى، والملائكة، والخلائق الدالة على عظمة الله تعالى.
١١- لم يعدل بصر النبي ﷺ يمينا ولا شمالا عما رأى بعينه يقينا، ولا تجاوز الحد الذي رأى.
١٢- لقد رأى النبي ﷺ من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات، قال الرازي معقبا على قول من قال: إنه رأى جبريل عليه السلام في صورته: الظاهر أن هذه الآيات غير تلك.

صفحة رقم 106
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية