
منع الإشراك وبيان عدم فائدة الأصنام
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٦]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦)
الاعراب:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى اللَّاتَ وَالْعُزَّى: المفعول الأول، والمفعول الثاني: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى.
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ضِيزى: أصلها ضوزى بوزى فعلى فقلب إلى (فعلى) وإنما كان أصلها (فعلى) لأن (فعلى) ليست من أبنية الصفات، وفعلى من أبنيتها، نحو حبلى، ونظير قِسْمَةٌ ضِيزى: «مشية حيكى» فقلبت الضمة كسرة لتصح الياء.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ.. كَمْ: خبرية، في موضع رفع بالابتداء، ولا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ: خبره، وجمع ضمير كَمْ عملا بالمعنى، لأن المراد بها الجمع.
وقوله: لِمَنْ يَشاءُ أي يشاء شفاعته، فحذف المضاف الذي هو المصدر، فصار: لمن يشاؤه، ثم حذف الهاء العائدة إلى (من) فصار يشاء.
البلاغة:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى استفهام توبيخي مع احتقار عقولهم.
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى مراعاة الفواصل وتوافق رؤوس الآيات الذي له وقع على السمع، ويسمى بالسجع.
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى بينهما طباق.

المفردات اللغوية:
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ أصنام العرب التي كانوا يعبدونها، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة، سمي به، لأنه صورة رجل كان يلتّ السويق بالسمن ويطعم الحاج. والعزّى كانت لغطفان، وهي شجرة ببطن نخلة، بعث النبي ﷺ عام الفتح خالد بن الوليد ليقطعها، فجعل يضربها بفأسه ويقول:
يا عز، كفرانك لا سبحانك | إني رأيت الله قد أهانك |
الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لتأكيد الذم، والأخرى: المتأخرة الوضيعة القدر، من التأخر في الرتبة، كما في قوله تعالى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الأعراف ٧/ ٣٨] أي قال أدنياؤهم أو وضعاؤهم لأشرافهم.
قِسْمَةٌ ضِيزى قسمة جائرة، من ضاز يضيز ضيزا، أي جار وظلم جورا. إِنْ هِيَ الأصنام المذكورة. سَمَّيْتُمُوها سميتم بها، أي إن إطلاق اسم الآلهة عليها مجرد تسميات لا مضمون لها، فليس فيها شيء من معنى الألوهية. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ما أنزل الله بعبادتها من حجة وبرهان. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون في عبادتها إلا مجرد الظن غير القائم على الدليل، وإلا توهم أن ما هم عليه حق، فالمراد بالظن هنا التوهم. وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ما تشتهيه أنفسهم مما زين لهم الشيطان أنها تشفع لهم عند الله تعالى. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى البرهان القاطع وهو الرسول والكتاب، فتركوه.
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ منقطعة، والهمزة فيها للإنكار، والمعنى بل ألكل إنسان منهم ما تمنى من أن الأصنام تشفع لهم؟ أي ليس له كل ما يتمناه، والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة المزعومة. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ أي وكثير من الملائكة. لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً لا تنفع شفاعتهم شيئا. إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة. لِمَنْ يَشاءُ من عباده. وَيَرْضى عنه ويراه أهلا كذلك، لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء ٢١/ ٢٨] وقوله:
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ [البقرة ٢/ ٢٥٥].
المناسبة:
بعد أن قرر الله تعالى الرسالة وصدق النبوة، ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد، ومنع الإشراك، وبيان عدم جدوى الأصنام في الشفاعة عند الله تعالى بأسلوب فيه إنكار وتهكم وتوبيخ وإهدار لحرمة العقل الذي يدين صفحة رقم 108

لغير الخالق الرازق، ويعبد أحجارا أو أشجارا أو معادن صماء لا تنفع ولا تضر.
التفسير والبيان:
يقرع الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فيقول:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أنظرتم إلى اللات: صنم ثقيف، والعزى: شجرة غطفان بين مكة والطائف، تعظمها قريش، ومناة:
صخرة لهذيل وخزاعة، وللأوس والخزرج بين مكة والمدينة، ثالثة الصنمين والمتأخرة الوضيعة القدر، قال ذلك عنها للتحقير والذم؟ إنها أحجار صماء أو أشجار تستنبت، فكيف تشركونها بالله، وهي مصنوعة لكم أو مخلوقة غير خالقة؟! والله عز وجل الذي تعرفون عظمته في الكون، أليس هو الأجدر والأحق بالعبادة؟! وهذا تقريع شديد، وذم وتوبيخ، لوضع الشيء في غير محله، فكانت ثقيف ومن تابعها يفتخرون باللات التي كانت صخرة بيضاء منقوش عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائفة، وهي في الأصل صورة رجل كان يلت السويق للحجيج في الجاهلية، فلما مات عكفوا على قبره، فعبدوه.
وكانت العزّى شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف، لغطفان، وكانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزّى ولا عزّى لكم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم».
وكانت مناة بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وتذبح عندها القرابين. وكانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم

الكعبة غير هذه الثلاثة التي نصت عليها الآية، وإنما أفردت هذه بالذكر، لأنها أشهر من غيرها.
وبعد بيان سخف عقولهم بعبادة الأصنام، وبخهم الله تعالى على شرك من نوع آخر وهو جعل الملائكة بنات الله، فقال:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي أتجعلون لله ولدا، ثم تجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور؟ فلو اقتسمتم فيما بينكم هذه القسمة، لكانت قسمة خارجة عن الصواب، جائرة عن الحق. فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها؟! ونظير الآية:
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟ [الطور ٥٢/ ٣٩].
ثم أنكر الله تعالى عليهم ما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر بعبادة الأصنام، وتسميتها آلهة، فقال:
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي ما تسمية هذه الأصنام آلهة، مع أنها لا تبصر ولا تسمع، ولا تعقل ولا تفهم، ولا تضر ولا تنفع إلا مجرد أسماء سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم، وليس لها مسميات حقيقية، اتخذتم ذلك أنتم وآباؤكم، قلّد الآخر فيها الأول، وتبع في ذلك الأبناء الآباء، ولم ينزل الله بها من حجة ولا برهان تحتجون به على أنها آلهة، كما قال تعالى في آية أخرى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ [يوسف ١٢/ ٤٠].
ثم بيّن الله تعالى منشأ عبادتها، فقال:
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي ما يتبعون في تسمية الأصنام آلهة إلا مجرد وهم أو ظن لا يغني من الحق شيئا، ولا يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وتميل إليه وتشتهيه، من غير التفات

إلى ما هو الحق الذي يجب اتباعه، مع أنه قد أتاهم من الله البيان الواضح الظاهر بأنها ليست آلهة، وهو هذا القرآن الذي هو الحجة والبرهان من عند الله، على لسان رسوله الذي بعثه الله إليهم، فأعرضوا عنه، ولم يتبعوا ما جاءهم به، ولا انقادوا له.
ثم أوضح الله تعالى أن القضية ليست بالتمنيات والأماني، وأن هذه الأصنام لا تفيدهم في شفاعة عند الله ولا في غيرها، فقال:
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي بل أيمكن «١» أن يكون للإنسان ما يتمنى؟ ليس كل من تمنى خيرا حصل له، وليس لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم، فسلطان الدنيا والآخرة وملكهما والتصرف فيهما لله عز وجل، وليس للأصنام معه أمر في الدنيا ولا في الآخرة «٢» : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ [النساء ٤/ ١٢٣].
وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته».
ثم بيّن الله طريق قبول الشفاعة، فقال:
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى أي وكثير من الملائكة الكرام في السموات، مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع لأحد إلا لمن أذن الله أن يشفع له، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة العقل والفهم؟! أي إن الملائكة لا تشفع إلا بعد الإذن لها بالشفاعة، وإلا لمن يشاء الله أن يشفعوا له، لكونه من أهل التوحيد، وليس للمشركين في ذلك حظ. قال
(٢) جملة فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى مسوقة لتقرير جهلهم واتباعهم الظن.

ابن كثير: فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله، وهو تعالى لم يشرع عبادتها، ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه «١» ؟. وهذا توبيخ لعبدة الملائكة والأصنام.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- حاجّ الله المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل، فإن تلك الأصنام التي يعبدونها كاللات والعزى ومناة لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، فكيف تجوز عبادتها؟ علما بأن العبادة في رأي المشركين للمنفعة، وهذه عديمة النفع، فهل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية، فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء؟ وقد عرفتم جلال الله وعظمته، فهو الأحق بالعبادة.
٢- قرّع الله المشركين ووبخهم أيضا ورد عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله، وبين لهم أنه لا يعقل جعل البنات الإناث لله، ويختارون هم الذكور، فهذه القسمة قسمة جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق.
٣- ما هذه الأوثان إلا أسماء وضعتموها ونحتموها وسميتموها آلهة، وقد قلدتم آباءكم في ذلك، وما أنزل الله بها من حجة ولا برهان، وما تتبعون في ذلك إلا الظن أو الوهم وأهواء النفس وما تميل إليه، بالرغم من أنه جاءكم البيان الشافي من جهة الرسول أنها ليست بآلهة، فهم اختاروا العمل بالظن مع قدرتهم على العمل باليقين الذي نزل به الوحي.