
سورة الذاريات
هى مكية وآيها ستون، نزلت بعد الأحقاف، ومناسبتها لما قبلها:
(١) إنه قد ذكر فى السورة السابقة البعث والجزاء والجنة والنار، وافتتح هذه بالقسم بأن ما وعدوا من ذلك صدق وأن الجزاء واقع.
(٢) إنه ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وهنا ذكر ذلك على وجه التفصيل.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
تفسير المفردات
الذاريات: الرياح تذرو التراب وغيره: أي تفرقه، والوقر: حمل البعير وجمعه أوقار: أي أثقال، والحاملات وقرا: هى الرياح الحاملات للسحاب المشبع ببخار الماء، واليسر: السهولة، والجاريات يسرا: هى الرياح الجارية فى مهابّها بسهولة، والمقسمات أمرا: هى الرياح التي تقسم الأمطار بتصريف السحاب، وما توعدون: هو البعث صفحة رقم 173

والحشر للحساب والجزاء، والدين: الجزاء، وواقع: أي حاصل، والحبك: الطرق واحدها حبيكة، مختلف: أي متناقض مضطرب فى شأن الله، فبينا تقولون إنه خالق السموات تقولون بصحة عبادة الأوثان معه، وفى شأن الرسول فتارة تقولون إنه مجنون وتارة تقولون إنه ساحر، وفى شأن الحشر فتارة تقولون لا حشر ولا بعث، وأخرى تقولون: الأصنام شفعاؤنا عند الله يوم القيامة، يؤفك عنه من أفك: أي يصرف عن القول المختلف: أي بسببه من صرف عن الإيمان، والخرّاصون: أي الكذابون من أصحاب القول المختلف، فى غمرة: أي فى جهل يشملهم ويغمرهم شمول الماء الغامر، ساهون: أي غافلون عما أمروا به، أيان يوم الدين: أي متى يوم الجزاء: أي متى حصوله، يفتنون: أي يحرقون، وأصل الفتن: إذابة الجوهر ليعرف غشه، فاستعمل فى الإحراق والتعذيب، فتنتكم: أي عذابكم المعدّ لكم.
المعنى الجملي
هاهنا أمور يجمل بك أن تتفهمها:
(١) بعد أن بين الحشر بدلائله وقال: «ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ» ثم أصروا على ذلك غاية الإصرار لم يبق إلا اليمين فقال «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً-... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ».
(٢) إن الأيمان التي حلف بها الله تعالى فى كتابه كلها دلائل على قدرته أخرجها فى صورة الأيمان، كما يقول القائل للمنعم عليه: وحق نعمك الكثيرة إنى لا أزال أشكرك، فيذكر النعم وهى سبب لدوام الشكر ويسلك بها مسلك القسم، وجاءت الآية هكذا مصدّرة بالقسم، لأن المتكلم إذا بدأ كلامه به علم السامع أن هاهنا كلاما عظيما يجب أن يصغى إليه، فإذا وجّه همه لسماعه خرج له الدليل والبرهان المتين فى صورة اليمين.

(٣) فى السور التي أقسم الله فى ابتدائها بغير الحروف المقطعة كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والحشر وهى التي يتم بها الإيمان، فأقسم لإثبات الوحدانية فى سورة الصافات فقال: «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» وأقسم فى سورتى النجم والضحى لإثبات الرسالة فقال فى الأولى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» وقال فى الثانية: «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» وأقسم فى سور كثيرة على إثبات البعث والجزاء.
(٤) فى السورة التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات فقال:
«وَالصَّافَّاتِ صَفًّا» وفى السور التي أقسم فيها لإثبات الحشر أقسم بالمتحركات فقال:
«وَالذَّارِياتِ ذَرْواً- وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً- وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً- وَالْعادِياتِ ضَبْحاً» لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وهو بالحركة أليق.
(٥) كانت العرب تحترز عن الأيمان الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع، وقد جرى النبي صلى الله عليه وسلّم على سننهم، فحلف بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا، وكانوا يعلمون أنه لا يحلف إلا صادقا، وإلا أصابه شؤم الأيمان، وناله المكروه فى بعض الأيمان.
الإيضاح
(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً، فَالْحامِلاتِ وِقْراً، فَالْجارِياتِ يُسْراً، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أقسم سبحانه بالرياح وذروها التراب، وحملها السحاب، وجريها فى الهواء بيسر وسهولة، وتقسيمها الأمطار، إن هذا البعث لحاصل، وإن هذا الجزاء لا بد منه فى ذلك اليوم، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وهنا أقسم سبحانه بالرياح وأفعالها، لما يشاهدون من آثارها ونفعها العظيم لهم فهى التي ترسل الأمطار مبشرات برحمته، ومنها تسقى الأنعام والزروع، وبها تنبت

البساتين والجنات وتصير الأرض القفر مروجا، وعليها يعتمدون فى معاشهم، فآثارها واضحة أمامهم، ولا عجب أن تكون لها المنزلة العظمى فى نفوسهم.
وأفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية، فإن ما على الأرض منجذب إليها، واقع عليها، ولكن هذه الرياح تتصرف تصرفا عجيبا تابعا لسير الكواكب، فبجريها وجرى الشمس تؤثر فى أرضنا وهوائها بنظام محكم، فما ذرت الرياح التراب، ولا حملت السحاب، ولا قسمت المطر على البلاد إلا بحركات فلكية منتظمة، من أجل هذا جعل ذلك براهين على البعث والإعادة.
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي والسماء ذات الجمال والبهاء، والحسن والاستواء، إنكم أيها المشركون المكذبون للرسول، لفى قول مختلف مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع، ولا يروج إلا على من هو ضالّ فى نفسه، لأنه قول باطل يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبما جاء به.
والخلاصة- قسما بالسماء وزينتها وجمالها، إن أمركم فى شأن محمد وكتابه لعجب عاجب، فهو متناقض مضطرب، فحينا تقولون هو شاعر، وحينا آخر تقولون هو ساحر، ومرة ثالثة تقولون هو مجنون، وبينا تقولون عن القرآن إنه سحر إذا بكم تقولون إنه شعر أو إنه كهانة.
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي قتل الكذابون من أصحاب القول المختلف الذين هم فى جهل عميق وغفلة عظيمة عما أمروا به.
وهذا دعاء عليهم يراد به فى عرف التخاطب لعنهم، إذ من لعنه الله فهو بمنزلة الهالك المقتول، وقد جاء فى القاموس: قتل الإنسان ما أكفره: أي لعن، وقاتلهم الله، أي لعنهم (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يسألك المشركون استهزاء فيقولون: متى يوم الجزاء، وقد كان لهم من أنفسهم لو تدبروا ما يدفعهم إلى الاعتقاد بمجىء هذا