آيات من القرآن الكريم

وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ
ﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ

الله، واستكبروا عن الامتثال به، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون إليها نهارا، وهي كل عذاب مهلك، وهي نار من السماء، أو صيحة منها، أي صوت شديد، فهلكوا، ولم يتمكنوا من النهوض فضلا عن الهرب والفرار، وما كان لهم ناصر ينصرهم ويمنعهم من العذاب حين أهلكوا.
- وقبل هؤلاء أرسل الله نوحا عليه السلام إلى قومه، فأمرهم بترك عبادة الأصنام، والاتجاه إلى عبادة الله الواحد الأحد، فأبوا وعاندوا واستمروا على كفرهم، فأهلكهم الله بالطوفان، جزاء على كفرهم وبغيهم ووثنيتهم.
وأنواع العذاب في إهلاك الأقوام السابقة تدل على أن الله قادر على أن يعذب ويحقق الفناء بما به البقاء والوجود أو عناصر الحياة الأربعة: وهي التراب والماء والهواء والنار، فعذب قوم لوط بالتراب، وعذب قوم نوح وقوم فرعون بالماء، وعذب عادا بالهواء، وثمود بالنار.
إثبات وحدانية الله وعظيم قدرته
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
الاعراب:
فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نعم: فعل ماض للمدح، والْماهِدُونَ فاعل، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فنعم الماهدون نحن، فحذف المقصود بالمدح.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ متعلق بقوله بعده: خَلَقْنا.

صفحة رقم 40

البلاغة:
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ سجع رصين غير متكلف يزيد في جمال الأسلوب، وبين السماء والأرض طباق.
المفردات اللغوية:
بِأَيْدٍ بقوة، مثل الآد. لَمُوسِعُونَ لقادرون على خلقها وخلق غيرها، من الوسع:
بمعنى الطاقة، والموسع: القادر على الإنفاق، يقال: آد الرجل يئيد: قوي، وأوسع الرجل: صار ذا سعة وقوة. فَرَشْناها مهدناها وبسطناها كالفراش لتستقروا عليها، يقال: مهد الفراش: إذا بسطه ووطّأه، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من كل جنس من الأجناس. زَوْجَيْنِ صنفين ونوعين: ذكر وأنثى، وسماء وأرض، وشمس وقمر، وسهل وجبل، وصيف وشتاء، وحلو وحامض، ونور وظلمة.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون، فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات، أما الواجب بالذات خالق الأزواج فهو فرد واحد لا يقبل التعدد والانقسام.
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فروا من عقابه إلى ثوابه ورضاه بالإقرار بالتوحيد وملازمة الطاعة وتجنب المعصية. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إني من عذابه المعدّ لمن أشرك أو عصى بيّن الإنذار والتخويف. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إفراد وتوحيد لمن يفرّ إليه ويلجأ لجنابة، أي وقل لهم: لا تجعلوا.. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تكرير الجملة للتأكيد.
المناسبة:
بعد إثبات وقوع البعث أو الحشر والمعاد لا محالة، أقام الله تعالى الأدلة على الوحدانية وعظيم القدرة، من خلق السماء محكمة البنيان، والأرض ممهدة كالفراش للاستقرار عليها، وخلق الجنسين كالذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوان، والصنفين المتضادين من بقية الأشياء، عدّد الحسن البصري أشياء كالسماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثيل له.

صفحة رقم 41

التفسير والبيان:
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي ولقد بنينا السماء بقوة وقدرة، وإنا لذوو قدرة وسعة على خلقها وخلق غيرها، فنحن قادرون، لا نعجز عن ذلك، ولا يمسنا تعب ولا نصب. وفي لفظ البناء إشارة إلى كونها محكمة البنيان. وقوله: بِأَيْدٍ تأكيد لذلك، وقوله: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مزيد تأكيد.
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي والأرض مهدناها وبسطناها كالفراش لتصلح للعيش والاستقرار عليها، فنعم الماهدون نحن الذين جعلناها مهدا لأهلها، ومترعة بالخيرات على سطحها وجوفها، برها وبحرها وجوها، فعلى سطحها يعيش الإنسان والحيوان، وفي جوفها الثروة المعدنية الجامدة والسائلة كالنفط، وفي برها مختلف النباتات والأزهار والأشجار، وفي بحرها آلاف الأنواع من الأسماك، واللآلئ والمرجان وتسير فيها السفن، وفي جوها الطير والهواء والسحب الزاخرة بالمطر، وتحليق الطائرات وغيرها.
وإنما أطلق الفرش على الأرض، ولم يطلق البناء، لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى. وقوله: بَنَيْناها أدل على الاستقلال وعدم الشريك في التصرف.
والآية تشير إلى أن دحو الأرض وبسطها كان بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون أولا قبل الفرش، وهذا هو المعروف الآن علميا. قال الرازي: في الآية دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش «١».

(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ٢٢٧

صفحة رقم 42

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي وأوجدنا من جميع المخلوقات صنفين أو نوعين ضدين أو متقابلين: ذكر وأنثى، وحلو ومرّ، وسماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وخير وشر، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات، لذا قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي خلقنا ذلك على هذا النحو لتعلموا وتتذكروا أن الخالق واحد لا شريك له، وتستدلوا بذلك على التوحيد.
ثم رتب على دليل الوحدانية والقدرة أمرين: اللجوء إلى الله وتجنب الشرك إتماما للتوحيد، فقال:
- فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي الجؤوا إلى الله، واعتمدوا عليه في أموركم كلها، وتوبوا من ذنوبكم، وأطيعوا أوامره، فإني لكم منذر بيّن الإنذار، ومخوّف من عذابه وعقابه. وهذا أمر بالإقبال على الله، والإعراض عما سواه. وقوله: فَفِرُّوا ينبئ عن سرعة الإهلاك، كأنه يقول: الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع، فافزعوا إلى الله سريعا وفروا.
- وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي لا تشركوا بالله شيئا آخر سواه، فإن الإله المعبود بحق هو الذي لا تصلح العبادة لغيره، ثم كرر التذكير بمهمة الإنذار البيّنة للنبي ﷺ للتأكيد.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إثبات وحدانية الله وقدرته بآيات الكون الكبرى، من خلق السماء التي تدل بكواكبها ونجومها وشمسها وقمرها وتوابعهما على أن الإله الصانع قادر على الكمال، وكذا خلق الأرض الممهدة المبسوطة الممدودة كالفراش بما فيها من خيرات

صفحة رقم 43

ظاهرة وباطنة، وأيضا خلق الصنفين والنوعين المختلفين من ذكر وأنثى، وحلو وحامض ونحو ذلك، وسماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، ونور وظلام، وسهل وجبل، وجنّ وإنس، وخير وشر، وبكرة وعشيّ، والأشياء المختلفة الطعوم والروائح والأصوات.
فهذا كله دليل على قدرة الله، ومن قدر على هذا قدر على الإعادة، وهو إشارة إلى أن ما سوى الله تعالى مركب من أجزاء، وهو دليل على الانتقال من المركب إلى البسيط، ومن الممكن إلى الواجب، ومن المصنوع إلى الصانع، فإن خالق الأزواج فرد وإلا لكان ممكنا، فيكون مخلوقا، ولا يكون خالقا، فلا يقدّر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء، إذ ليس كمثله شيء.
٢- إن الإله المتصف بالوحدانية والقدرة الباهرة يجب في حقه أمران أساسيان: اللجوء إليه وحده، والتوبة إليه من الذنوب، والفرار من معاصيه إلى طاعته، واجتناب الشرك أو عبادة شيء آخر معه. قال سهل بن عبد الله: فرّوا مما سوى الله إلى الله.
٣- إن النبي ﷺ في حياته وبعد مماته بما تركه من بيان وسنة دائم الإنذار، بيّن التخويف، ينذر الناس من عقاب الله على الكفر والمعصية.

صفحة رقم 44
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية