
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ومثل آيات سورة الحجر هذه: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ومثل آيات سورة الدخان هذه: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦).
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٦ الى ١١]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠)
رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)
. (١) فروج: شقوق أو فتوق.
(٢) رواسي: كناية عن الجبال.
(٣) من كل زوج: من كل صنف.
(٤) بهيج: حسن المنظر.
(٥) حبّ الحصيد: إشارة إلى الزراعة الحبوبية التي تجنى بطريق الحصد كالقمح والشعير.
(٦) باسقات: مرتفعات أو عاليات.
(٧) طلع: هو في اللغة أول ثمر النخلة.
(٨) نضيد: منضد بعضه فوق بعضه أو بعضه إلى جانب بعضه.

والآيات متصلة بسابقاتها بقرينة جملة أَفَلَمْ يَنْظُرُوا التي تنصرف إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة عجبهم من رسالة النبي واستبعادهم البعث الأخروي. وهي بسبيل البرهنة على قدرة الله. والسؤال الذي بدأت به الآيات استنكاري يتضمن التنديد بالجاحدين لإنكارهم قدرة الله بينما يرون آثارها العظيمة ماثلة أمامهم في السماء وبديع خلقها وزينتها، والأرض ورواسيها وصنوف نباتها وأشجارها والمطر المبارك الذي ينزل من السماء فينبت به الشجر والحب وتحيا به الأرض بعد موتها ويعرفون أن ذلك من آثار تلك القدرة. وليس البعث بأعظم من ذلك.
ولقد حكى القرآن اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وأنه هو الذي خلق السموات والأرض على ما أوردنا شواهده القرآنية في السورة السابقة وبذلك تستحكم حجة الله فيهم.
ولقد أشير في آيات أخرى إلى تزيين الله سبحانه السماء بالكواكب منها آية سورة الصافات هذه: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) حيث يمكن القول إن العبارة القرآنية هنا قد قصدت ذلك.
وجملة أَفَلَمْ يَنْظُرُوا التي بدأت بها الآيات قد تفيد أن ما لفت نظر السامعين أو الجاحدين إليه فيها من بديع خلق الله ونواميس كونه ولا سيما عدم وجود شقوق في السماء وزينتها مطابق لما كان في أذهانهم عنها. وبذلك تستحكم كذلك حجة القرآن فيهم من هذه الناحية أيضا.
ولقد انطوت الآية الأخيرة على تشبيه إحياء الأرض بالماء بعد موتها بالبعث الأخروي. وعلى دليل على قدرة الله عزّ وجلّ على هذا البعث. فالماء الذي ينزله الله تعالى من السماء يثير في الأرض الميتة الجافة مظاهر الحياة المتنوعة. والذي يقدر على ذلك يقدر بطبيعة الحال على بعث الناس بعد موتهم. وقد تكرر هذا البرهان التشبيهي المقتطع من مشاهدات الناس في المناسبات المماثلة، ومن ذلك

ما جاء في آية سورة الروم هذه: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وما جاء في آية سورة الأعراف هذه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧).
صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحسّ في البرهنة على قدرة الله عبر مشاهد الطبيعة ونواميس الكون
ويلفت النظر الأسلوب البسيط القوي المسترعي للأذهان والحسّ الذي أشير به إلى المشاهد والنواميس الكونية، والذي هو سائغ لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم فلا يقصر أحد به عن إدراك ما في تلك المشاهد والنواميس من عظمة ونفع وقوام حياة وبرهان، ولا يتردّد به أحد في ردّ ذلك إلى قدرة الله ورحمته، والإقناع بأنها ليست في نطاق قدرة ما غير قدرة الله عزّ وجلّ الخالق البارئ المصوّر الرازق، وبأن الذي يقدر على هذا يقدر على كل شيء بما في ذلك بعث الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم حسب أعمالهم لأن ذلك من مقتضيات عدل الله وحكمته.
وهذا الأسلوب تكرر في كل المناسبات والآيات المماثلة. وهو أسلوب مخاطبة العقل والقلب والبصر والحس والبرهان الحي الماثل لكل الناس من جميع الطبقات وفي كل زمن ومكان.
وما دام أن هذا الأسلوب في عرض مشاهد الكون والطبيعة في القرآن قد قصد به استرعاء الأذهان والأبصار إلى عظمة الله وقدرته والبرهنة على أنه هو وحده المستحق للعبادة والاتجاه عبر ما يلمسه السامعون ويشاهدونه ويعرفون مداه فالأولى إبقاؤه في هذا النطاق وعدم محاولة الخروج منه إلى بحوث فنية والتوفيق الجزء الثاني من التفسير الحديث ١٥