آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ
ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ

أقوى منهم وأشد بطشا فما أعجزوا الله ولم يجدوا لهم منه مخلصا ومهربا في الأرض. وفي هذا الذي يعرفه السامعون عظة وعبرة لمن حسنت سريرته وطابت نيته ورغب في النجاة.
وفي الآية الثانية تقرير بأسلوب جديد لقابلية الاختيار في الإنسان كما هو المتبادر.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٨ الى ٤٥]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
. (١) لغوب: تعب.
(٢) أدبار السجود: عقب السجود.
(٣) جبار: هنا بمعنى مسيطر وقاهر أو مجبر.
يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [٣٨ و ٣٩] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلّى الله عليه وسلّم واليهود حيث روى الطبري عن أبي بكر قال: «جاءت اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟ فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السموات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا صدقت إن أتممت فعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يريدون فغضب فأنزل الله وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما

صفحة رقم 243

يَقُولُونَ
». وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي: «أن اليهود حينما قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم صدقت إن أتممت قال وما ذاك قالوا ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم وقال له فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد وهذا قبل الأمر بقتالهم».
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [٣٨] التي فيها خلق السموات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [٣٩] مع أن الآية [٣٩] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [٣٨] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السموات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة.
وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ الردّ على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي.
ولم نطّلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا.
وفي الآيات [٤٢ و ٤٣ و ٤٤] توكيد جديد من الله عزّ وجلّ بأنه هو الذي يحيي ويميت وبأن صوت مناديه سوف يعلو فيخرج الناس من الأرض ملبين مسرعين إليه ليفصل بينهم حسب أعمالهم وبأن ذلك هين سهل عليه. وفي الآيات

صفحة رقم 244

[٣٨ و ٣٩ و ٤٠ و ٤٥] تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتسلية له عن تكذيب المكذبين ومواقفهم حيث تهيب به بأن يتحمل أقوالهم التي يسمعها الله عزّ وجلّ وأن يواصل تسبيح الله وعبادته، وحيث تعلنه أنه لم يرسله ربّه لإجبار الناس على الاستجابة، وأنه ليس عليه إلّا أن يذكّر بالقرآن من يخاف وعيد الله. وقد انطوى في الآيات تقرير مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. والإشادة بذوي النيات الحسنة والضمائر اليقظة الراغبين في الحق والهدى. فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بما في القرآن من عظة وهدى. وقد انطوى في الآية الأخيرة خاصة توكيد مبدأ حرية التدين وترك الناس لاختيارهم وعدم الإكراه في الدين. فعلى النبي أن يدعو ويذكر وليس عليه أن يجبر. وقد تكرر هذا بأساليب متنوعة، منها آيات سورة الغاشية هذه فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) وآية سورة يونس هذه: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وآية سورة البقرة هذه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦).
كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها
وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم نقول إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم شديد الحرص على هداية قومه وكان حزنه وهمّه يشتدان كل ما رأى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصدّ، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتدّ ثلاث عشرة سنة مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهمّ والحزن مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما

صفحة رقم 245

يَصْنَعُونَ (٨)
وآية سورة الشعراء هذه: لَعَلَّكَ باخِعٌ «١» نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) وآية سورة طه هذه: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) وآية سورة الكهف هذه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبّارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكيّة فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها.
والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون فلا نرى ضرورة للإعادة.
تعليق على موضوع خلق السموات والأرض في ستة أيام
في كتب التفسير أقوال وتعليقات وأحاديث في هذا الموضوع الذي تكرر كثيرا وبأساليب متنوعة في القرآن. وفيما يلي إحاطة به في مناسبة وروده هنا لأول مرة نرجو أن يكون فيها الفائدة والصواب إن شاء الله.
ولقد روى المفسرون «٢» حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «أنّ رسول الله أخذ بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبثّ فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل». وهذا الحديث رواه مسلم أيضا ويعد من الصحاح في اصطلاح علماء الحديث «٣». ومع ذلك فإنه يلحظ منه أن الخلق استغرق سبعة أيام حيث بدأ به يوم السبت وانتهى منه مساء الجمعة وليس

(١) باخع: بمعنى مهلك أو قاتل.
(٢) انظر الآية [٥٤] من سورة الأعراف في تفسير ابن كثير.
(٣) انظر التاج ج ٤ ص ٣٣- ٣٤.

صفحة رقم 246

فيه ذكر للسموات. وهذا مناقض لنصّ الآية. وقد لحظ هذا ونبّه عليه ابن كثير أيضا وقال إن البخاري تكلّم في هذا الحديث. وهناك حديث رواه الطبري عن مجاهد جاء فيه: «إن الخلق بدأ يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة».
ولقد ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم أن الدنيا كانت خالية وظلاما ويغمرها الماء وكانت روح الله ترفّ على وجهه وأن الله خلق في يوم النور وفصل بينه وبين الظلام فسمى النور نهارا والظلام ليلا وأنه خلق في اليوم التالي السماء وفي اليوم الثالث الأرض (الجلد) في وسط الماء وصنوف النبات والشجر وفي اليوم الرابع الشمس والقمر والنجوم لتضيء على الأرض وفي اليوم الخامس الزحافات والطيور والحيتان وفي اليوم السادس البهائم والوحوش ودبابات الأرض، ثم صنع الإنسان على صورته ذكرا وأنثى، وفرغ في اليوم السابع من العمل واستراح- سبحانه وتعالى وبارك هذا اليوم وقدسه. ولم يرد في هذا السياق أسماء الأيام الستة. غير أنه ورد في أسفار أخرى أن الله قدس السبت وحرّم فيه العمل «١». حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن اليهود كانوا يرون أن يوم السبت هو اليوم الذي انتهى الخلق قبله. ولقد روى ابن كثير عن الإمام أحمد ومجاهد وابن عباس رضي الله عنهم أن اليوم السابع الذي اكتمل الخلق قبله كان يوم السبت وأنه سمّي بهذا الاسم لأن معناه القطع على اعتبار أن العمل قد انقطع فيه «٢». ومع ما في هذا من غرابة سواء من ناحية القول بانقطاع الله سبحانه عن العمل أم من ناحية كون تسمية (السبت) لا يمكن أن تكون إلّا متأخرة جدا عن عملية الخلق الأولى فإن شيئا من التماثل قائم بين ما ورد في الحديث وما ورد في سفر التكوين، ثم بين ما روي في صدد السبت وبين ما ورد في سفر التكوين والأسفار الأخرى من تقديس السبت وتحريم العمل فيه. وفي سورة هود هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى

(١) انظر الإصحاح ٢٠ من سفر الخروج مثلا. وقد تكرر ذكر ذلك كثيرا في الأسفار الأخرى.
(٢) انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير. [.....]

صفحة رقم 247

الْماءِ [٧] حيث يبدو شيء من التماثل بينها وبين عبارة سفر التكوين «كان روح الله يرفّ على وجه الماء».
ولقد تساءل ابن كثير «١» عما إذا كان يوم الخلق هو يوم عادي أو مثل اليوم الذي ذكر في آية سورة الحج [٤٧] : وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وفي تفسير ابن عباس رواية الكلبي أنه يوم كألف سنة بأسلوب الجزم.
وبعض المفسرين قالوا إن اليوم يعني في اللغة زمنا ما أو وقتا ما على الإطلاق، وإن عبارة القرآن قد تعني أن الله خلق الكائنات في أزمان متتالية «٢». ولقد أوّل السيد رشيد رضا «٣» الأيام بالأطوار التكوينية التي مرت بعملية خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من كائنات حية وغير حية. وبعض المفسرين أخذوا عبارة القرآن على ظاهرها واعتبروا الأيام عادية. وبعضهم علّل ذلك بأن الله مع قدرته على خلق جميع ما خلق في الأيام الستة بمجرد تعلق إرادته به فإنه أراد بذلك تعليم عباده التأني والتدرّج «٤». ومنهم من جال في كيفيات وماهيات خلق السموات والأرض وما فيهما خلال الأيام الستة في سياق آيات سورة فصلت هذه بخاصة التي تفسح المجال لذلك الجولان: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢).
ومع تقريرنا واجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن وأنه من عند ربنا ما فهمنا

(١) انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير.
(٢) انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير محاسن التأويل للقاسمي.
(٣) انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير المنار ج ٧.
(٤) انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير البغوي ومجمع البيان للطبرسي مثلا.

صفحة رقم 248

حكمته ومداه وما لم نفهم فإننا نقول: إن الإشارات القرآنية تلهم كما قلنا قبل أن من مقاصدها التذكير بقدرة الله وعظمته أكثر من قصد تقريره المدة والكيفيات لذاتها، وفي الآية التي نحن في صددها وفي آيات سورة فصلت التي أوردناها دليل قوي على ذلك.
وقد يكون في فكرة السيد رشيد رضا بتأويل اليوم بالتطوّر الزمني في تكوّن مشاهد الكون وصنوف الكائنات الحية وغير الحية شيء كثير من الوجاهة بالنسبة لموضوعية الآيات، غير أن هذا لم يكن معروفا على الوجه الذي عرف به في القرون الحديثة في زمن النبي عليه السلام، ولا نريد أن نسلّم بأن القرآن احتوى إشارات إلى أمور فنية وعلمية لم تكن معروفة ولا مدركة على حقيقتها من قبل النبي عليه السلام وسامعي القرآن، ونرى هذا مما لا تتحمله أهداف القرآن ولا عباراته من جهة ومما فيه إخراج له من نطاقه الإرشادي إلى مجال البحث والنقد من جهة أخرى.
ومن الممكن أن نضيف إلى ما قلناه: إن مشاهد الكون ونواميسه في القرآن من قسم الوسائل التدعيمية لمبادئ الدعوة وبخاصة لحقيقة عظمة الله ووحدته وقدرته الشاملة وأن الأولى أن يوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه فيها بالأساليب التي اقتضتها هذه الحكمة بدون تزيد ولا تخمين. ولقد قلنا أكثر من مرة في مناسبات سابقة: إن هذه الوسائل تكون أقوى على تحقيق غايتها حين يكون موضوعها مما يعرفه السامعون وخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان روح الله قبل ذلك يرفّ على وجه الماء مما ورد كما قلنا في سفر التكوين الذي كان من جملة الأسفار المتداولة بين أيدي الكتابيين في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومما لا ريب فيه أن سامعي القرآن العرب كانوا أو كان كثير منهم يعرفون ذلك عن طريق الكتابيين. فالمتبادر أن حكمة الله اقتضت أن يذكر ذلك بصورة موجزة لما فيه من تماثل مع ما يعرفه السامعون لتدعيم المبدأ القرآني المحكم، وهو وجود واجب الوجود وشمول قدرته وربوبيته وكونه الذي خلق الكون. والذي يسير بتدبيره ونواميسه التي أودعها فيه، وإننا لنرجو أن يكون في هذا الصواب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

صفحة رقم 249

تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلوات
وقد علّق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [٣٩ و ٤٠] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربّه فقال: إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحثّ على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار كما في آية سورة هود هذه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وفي آيات سورة الإسراء هذه: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وفي آية سورة طه هذه: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) ومع أن المتبادر من روح الآيات هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صحّ هذا ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلّا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم.
وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنّة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.

صفحة رقم 250

تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمن من قوة معنوية تساعده على مواجهة الملمات
ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات مسبوق بأمر النّبي بالصّبر على ما يقوله الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (٧٧) كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين:
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلمّ فيها بالمؤمن غمّ وهمّ من شأنه أن يشرح صدره ويمدّه بقوّة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال: «كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: إنكم سترون ربّكم كما ترون هذا. لا تضامون في رؤيته. فإن استطعتم ألّا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ «١».
وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.

(١) التاج ج ٤ ص ٢١٧.

صفحة رقم 251

ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا.
معنى توالي السور التي احتوت توكيد البعث والحساب
هذا ويلحظ أن السورة منصبة في الدرجة الأولى على توكيد البعث الأخروي والتبشير والإنذار به. وهو مما انصبّت عليه سور المرسلات والقيامة والقارعة السابقة بالتوالي لهذه السورة فضلا عن احتواء أكثر السور السابقة فصولا إنذارية وتبشيرية وتوكيدية به.
وفي كل هذا توكيد لما قلناه في سياق تفسير العلق من أن الحياة الأخروية كانت من أهم مواضيع الجدل والحجاج بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار من جهة، ومن أهم وسائل التدعيم للدعوة النبوية وإنذارا وتبشيرا وترغيبا وترهيبا وعظة وتذكيرا من جهة أخرى منذ بدء التنزيل القرآني.
خبر عن تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه السورة أيام الجمع
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد ومسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت: «لقد كان تنورنا وتنور النبي صلّى الله عليه وسلّم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة وما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلّا على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس». وعلّل ابن كثير ذلك بسبب اشتمال السورة على بدء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب.

صفحة رقم 252
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية