آيات من القرآن الكريم

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ

[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٥]

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ إِشَارَةً إِلَى حُسْنِ الْأَدَبِ الَّذِي عَلَى خِلَافِ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ فَإِنَّهُمْ لَوْ صَبَرُوا لَمَا احْتَاجُوا إِلَى النِّدَاءِ، وَإِذَا كُنْتَ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَلَا يَصِحُّ إِتْيَانُهُمْ فِي وَقْتِ اخْتِلَائِكَ بِنَفْسِكَ أَوْ بِأَهْلِكَ أَوْ بِرَبِّكَ، فَإِنَّ لِلنَّفْسِ حَقًّا وَلِلْأَهْلِ حَقًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَسَنُ وَالْخَيْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الْفُرْقَانِ: ٢٤]، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ بِالنِّدَاءِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ يَسْتَفِيدُونَ تَنْجِيزَ الشُّغْلِ وَدَفْعَ الْحَاجَةِ فِي الْحَالِ وَهُوَ مَطْلُوبٌ، وَلَكِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمَهُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْحَاجَةَ الْأَصْلِيَّةَ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ وَحَاجَاتُ الدُّنْيَا فَضْلِيَّةٌ، وَالْمَرْفُوعُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلِمَةُ كَانَ إِمَّا الصَّبْرُ وَتَقْدِيرُهُ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا لَكَانَ الصَّبْرُ خَيْرًا، أَوِ الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ وَتَقْدِيرُهُ لَوْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خُرُوجُكَ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ خَيْرًا لَهُمْ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِلْحِكَايَةِ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا خُرُوجَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَأْخُذُوا ذَرَارِيَّهُمْ، فَخَرَجَ/ وَأَعْتَقَ نِصْفَهُمْ وَأَخَذُوا نَصْفَهُمْ، وَلَوْ صَبَرُوا لَكَانَ يَعْتِقُ كُلُّهُمْ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَحْقِيقًا لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ فِي التَّعَجُّلِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِقَبِيحٍ وَلَا يُعَاقِبُهُ الْمَلِكُ أَوِ السَّيِّدُ يُقَالُ مَا أَحْلَمَ سَيِّدَهُ لَا لِبَيَانِ حِلْمِهِ، بَلْ لِبَيَانِ عَظِيمِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَثَانِيهِمَا:
لِحُسْنِ الصَّبْرِ يَعْنِي بِسَبَبِ إِتْيَانِهِمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَيَجْعَلُ هَذِهِ الْحَسَنَةَ كَفَّارَةً لِكَثِيرٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ، كَمَا يُقَالُ لِلْآبِقِ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَابِ سَيِّدِهِ أَحْسَنْتَ فِي رُجُوعِكَ وَسَيِّدُكَ رَحِيمٌ، أَيْ لَا يُعَاقِبُكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ بِسَبَبِ مَا أَتَيْتَ بِهِ مِنَ الْحَسَنَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَثٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفْحِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ كَالْعُذْرِ لَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْغُفْرَانَ قَبْلَ الرَّحْمَةِ، كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَرَ الرَّحْمَةَ قَبْلَ الْمَغْفِرَةِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سَبَأٍ: ٢] فَحَيْثُ قَالَ:
غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ يَغْفِرُ سَيِّئَاتِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَيَرَاهُ عَارِيًا مُحْتَاجًا فَيَرْحَمُهُ وَيُلْبِسُهُ لِبَاسَ الْكَرَامَةِ وَقَدْ يَرَاهُ مَغْمُورًا فِي السَّيِّئَاتِ فَيَغْفِرُ سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ يَرْحَمُهُ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ، فَتَارَةً تَقَعُ الْإِشَارَةُ إِلَى الرَّحْمَةِ الَّتِي بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ فَيُقَدِّمُ الْمَغْفِرَةَ، وَتَارَةً تَقَعُ الرَّحْمَةُ قَبْلَ الْمَغْفِرَةِ فَيُؤَخِّرُهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ وَاسِعَةً تُوجَدُ قَبْلَ الْمَغْفِرَةِ وبعدها ذكرها قبلها وبعدها.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٦]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)
هَذِهِ السُّورَةُ فِيهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهِيَ إِمَّا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْجِنْسِ، وَهُمْ عَلَى صِنْفَيْنِ، لِأَنَّهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَدَاخِلِينَ فِي رُتْبَةِ الطَّاعَةِ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا وَهُوَ الْفَاسِقُ وَالدَّاخِلُ فِي طَائِفَتِهِمُ السَّالِكُ لِطَرِيقَتِهِمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَهُمْ أَوْ غَائِبًا عَنْهُمْ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ اللَّهِ وَثَانِيهَا: بِجَانِبِ الرَّسُولِ وَثَالِثُهَا: بِجَانِبِ الْفُسَّاقِ وَرَابِعُهَا: بِالْمُؤْمِنِ الْحَاضِرِ وَخَامِسُهَا: بِالْمُؤْمِنِ الْغَائِبِ فَذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَرْشَدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى مَكْرُمَةٍ مَعَ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ فَقَالَ أولًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ

صفحة رقم 97

اللَّهِ وَرَسُولِهِ
[الحجرات: ١] وَذِكْرُ الرَّسُولِ كَانَ لِبَيَانِ طَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّهَا لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَالَ ثانياً:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: ٢] لِبَيَانِ وُجُوبِ احْتِرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقال ثالثاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ لِبَيَانِ وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ إِلْقَاءَ الْفِتْنَةِ/ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩] وقال رابعاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الْحُجُرَاتِ: ١١] وَقَالَ: وَلا تَنابَزُوا [الْحُجُرَاتِ: ١١] لِبَيَانِ وُجُوبِ تَرْكِ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حُضُورِهِمْ والازدراء بحالهم ومنصبهم، وقال خامساً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الْحُجُرَاتِ: ١٢] وَقَالَ: وَلا تَجَسَّسُوا [الْحُجُرَاتِ: ١٢] وَقَالَ:
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً لِبَيَانِ وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْ إِهَانَةِ جَانِبِ الْمُؤْمِنِ حَالَ غَيْبَتِهِ، وَذِكْرِ مَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَتَأَذَّى، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ مِنَ التَّرْتِيبِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْمُؤْمِنَ قَبْلَ الْفَاسِقِ لِتَكُونَ الْمَرَاتِبُ مُتَدَرِّجَةَ الِابْتِدَاءِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ بِالْمُؤْمِنِ الْحَاضِرِ، ثُمَّ بِالْمُؤْمِنِ الْغَائِبِ، ثُمَّ بِالْفَاسِقِ؟ نَقُولُ: قَدَّمَ اللَّهُ مَا هُوَ الْأَهَمُّ عَلَى مَا دُونَهُ، فَذَكَرَ جَانِبَ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ جَانِبَ الرَّسُولِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُفْضِي إِلَى الِاقْتِتَالِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ الْإِصْغَاءِ إِلَى كَلَامِ الْفَاسِقِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ كُلَّ مَا كَانَ أَشَدَّ نِفَارًا لِلصُّدُورِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْحَاضِرُ أَوِ الْغَائِبُ فَلَا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ إِلَى حَدٍّ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ نَبَأِ الْفَاسِقِ آيَةَ الِاقْتِتَالِ، فَقَالَ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، وَهُوَ أَخُو عُثْمَانَ لِأُمِّهِ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَلِيًّا وَمُصَدِّقًا فَالْتَقَوْهُ، فَظَنَّهُمْ مُقَاتِلِينَ، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّهُمُ امْتَنَعُوا وَمَنَعُوا، فَهَمَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَهَذَا جَيِّدٌ إِنْ قَالُوا بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا إِنْ قَالُوا بِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِذَلِكَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ وَمُتَعَدِّيًا إِلَى غَيْرِهِ فَلَا، بل نقول هو نزل عاما لبيان التثبت، وَتَرْكِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْفَاسِقِ، وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ لِكَذَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إِنِّي أَنْزَلْتُهَا لِكَذَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ لِبَيَانِ ذَلِكَ فَحَسْبُ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ مِثْلُ التَّارِيخِ لِنُزُولِ الْآيَةِ، وَنَحْنُ نُصَدِّقُ ذَلِكَ، وَيَتَأَكَّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْفَاسِقِ عَلَى الوليد سيء بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ وَظَنَّ فَأَخْطَأَ، وَالْمُخْطِئُ لَا يُسَمَّى فَاسِقًا، وَكَيْفَ وَالْفَاسِقُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ خَرَجَ عَنْ رِبْقَةِ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الْمُنَافِقُونَ: ٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: ٥٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: ٢٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ كَانَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ شَدِيدٌ عَلَى الْكَافِرِ غَلِيظٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْفَاسِقُ مِنْ أَنْ يُخْبِرَهُ بِنَبَأٍ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ يَكُونُ نَادِرًا، فَقَالَ: إِنْ جاءَكُمْ بِحَرْفِ الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ إِلَّا مَعَ التَّوَقُّعِ، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ، وَإِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّكِرَةُ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تَعُمُّ إِذَا كَانَتْ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ، كَمَا أَنَّهَا تَعُمُّ فِي/ الْإِخْبَارِ إِذَا كَانَتْ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، وتخص في معرض الشرط إذ كَانَتْ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، كَمَا تَخُصُّ فِي الْإِخْبَارِ إِذَا كَانَتْ

صفحة رقم 98

فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ، فَلْنَذْكُرْ بَيَانَهُ بِالْمِثَالِ وَدَلِيلَهُ، أَمَّا بَيَانُهُ بِالْمِثَالِ فَنَقُولُ: إِذَا قَالَ قَائِلٌ لِعَبْدِهِ: إِنْ كَلَّمْتُ رَجُلًا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ رَجُلًا حَتَّى يعْتِقَ بِتَكَلُّمِ كُلِّ رَجُلٍ، وَإِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أُكَلِّمِ الْيَوْمَ رَجُلًا فَأَنْتَ حُرٌّ، يَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ الْيَوْمَ رَجُلًا حَتَّى لَا يَعْتِقَ الْعَبْدُ بِتَرْكِ كَلَامِ كُلِّ رَجُلٍ، كَمَا لَا يَظْهَرُ الْحَلِفُ فِي كَلَامِهِ بِكَلَامِ كُلِّ رَجُلٍ إِذَا تَرَكَ الْكَلَامَ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ فَلِأَنَّ النَّظَرَ أَوَّلًا إِلَى جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ لَمَّا أَنَّ الْوَضْعَ لِلْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ بِحَرْفٍ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: زَيْدٌ قَائِمٌ، وُضِعَ أَوَّلًا وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُقَالَ مَعَ ذَلِكَ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَفِي جَانِبِ النَّفْيِ احْتَجْنَا إِلَى أَنْ نَقُولَ: زَيْدٌ لَيْسَ بِقَائِمٍ، وَلَوْ كَانَ الْوَضْعُ وَالتَّرْكِيبُ أَوَّلًا لِلنَّفْيِ، لَمَا احْتَجْنَا إِلَى الْحَرْفِ الزَّائِدِ اقْتِصَارًا أَوِ اخْتِصَارًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: رَأَيْتُ رَجُلًا، يَكْفِي فِيهِ مَا يُصَحِّحُ الْقَوْلَ وَهُوَ رُؤْيَةُ وَاحِدٍ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا، وَهُوَ وُضِعَ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: رَأَيْتُ رَجُلًا، وَرُكِّبَ لِتِلْكَ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمُتَقَابِلَانِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصْدُقَا، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا، لَوْ كَفَى فِيهِ انْتِفَاءُ الرُّؤْيَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ لَصَحَّ قَوْلُنَا: رَأَيْتُ رَجُلًا، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا، فَلَا يَكُونَانِ مُتَقَابِلَيْنِ، فَيَلْزَمُنَا مِنَ الِاصْطِلَاحِ الْأَوَّلِ الِاصْطِلَاحُ الثَّانِي، وَلَزِمَ مِنْهُ الْعُمُومُ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّرْطِيَّةُ وُضِعَتْ أَوَّلًا، ثُمَّ رُكِّبَتْ بَعْدَ الْجَزْمِيَّةِ بِدَلِيلِ زِيَادَةِ الْحَرْفِ وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْجَزْمِيَّةِ، وَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِذَا لَمْ تَكُنْ أَنْتَ حُرًّا مَا كَلَّمْتُ رَجُلًا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى النَّفْيِ، وَكَمَا عُلِمَ عُمُومُ الْقَوْلِ فِي الْفَاسِقِ عُلِمَ عُمُومُهُ فِي النَّبَأِ فَمَعْنَاهُ: أَيُّ فَاسِقٍ جَاءَكُمْ بِأَيِّ نَبَأٍ، فَالتَّثَبُّتُ فِيهِ وَاجِبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مُتَمَسَّكُ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، وَشَهَادَةَ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ، أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَقَالُوا عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالتَّوَقُّفِ بِكَوْنِهِ فَاسِقًا، وَلَوْ كَانَ خَبَرُ الوحد الْعَدْلِ لَا يُقْبَلُ، لَمَا كَانَ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى الْفَاسِقِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّمَسُّكِ بِالْمَفْهُومِ. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ، فَلَوْ قَبِلَ قَوْلَهُ لَمَا كَانَ الْحَاكِمُ مَأْمُورًا بِالتَّبَيُّنِ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ الْفَاسِقِ مَقْبُولًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ فِي الْخَبَرِ والنبأ، وباب الشهادة أضيف مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ وَالْجَهْلُ فَوْقَ الخطأ، لأن المجتهد إذ أَخْطَأَ لَا يُسَمَّى جَاهِلًا، وَالَّذِي يَبْنِي الْحُكْمَ عَلَى قَوْلِ الْفَاسِقِ إِنْ لَمْ يُصِبْ جَهِلَ فَلَا يَكُونُ الْبِنَاءُ عَلَى قَوْلِهِ جَائِزًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ تُصِيبُوا ذَكَرْنَا فِيهَا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ لِئَلَّا تُصِيبُوا، وَثَانِيهَا: مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ كَرَاهَةَ أن تصيبوا، ويحتلم أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ فَتَبَيَّنُوا وَاتَّقُوا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَا أَنْ يَقُولَ الْفَاسِقُ: تَظْهَرُ الْفِتَنُ بَيْنَ أَقْوَامٍ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْأَلْفَاظِ الْمُؤْذِيَةِ فِي الْوَجْهِ، وَالْغِيبَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَمْنَعُهُ دِينُهُ مِنَ الْإِفْحَاشِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيحَاشِ، وَقَوْلُهُ بِجَهالَةٍ فِي تَقْدِيرِ حَالٍ، أَيْ أَنْ/ تُصِيبُوهُمْ جَاهِلِينَ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْإِصَابَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النِّسَاءِ: ٧٩] لَكِنَّ الْأَكْثَرَ أنها تستعمل فيها يَسُوءُ، لَكِنَّ الظَّنَّ السُّوءَ يُذْكَرُ مَعَهُ، كَمَا في قوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ [النساء: ٧٨] ثُمَّ حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ بَيَانًا لِأَنَّ الْجَاهِلَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى فِعْلِهِ نَادِمًا، وَقَوْلُهُ فَتُصْبِحُوا مَعْنَاهُ تَصِيرُوا، قَالَ النُّحَاةُ: أَصْبَحَ يُسْتَعْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: بِمَعْنَى دُخُولِ الرَّجُلِ فِي الصَّبَاحِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَصْبَحْنَا نَقْضِي عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: بِمَعْنَى كَانَ الْأَمْرُ وَقْتَ الصَّبَاحِ كَذَا وَكَذَا، كَمَا يَقُولُ: أَصْبَحَ الْيَوْمَ مَرِيضُنَا

صفحة رقم 99
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية