آيات من القرآن الكريم

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ

طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والتأدب في خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
الإعراب:
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ الكاف: في موضع نصب، لأنها صفة مصدر محذوف، تقديره: جهرا كجهر بعضكم. وأَنْ تَحْبَطَ: في موضع نصب: بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأن تحبط، ويجوز أن يكون في موضع جر، بإعمال حرف الجر مع الحذف.
أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ.. أُولئِكَ: إما خبر إِنَّ، أو مبتدأ، وخبره لَهُمْ مَغْفِرَةٌ والجملة منهما خبر إِنَّ. ويجوز أن يكون أُولئِكَ صفة الَّذِينَ ويكون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.. خبر إِنَّ. ومَغْفِرَةٌ: إما مرفوع بالظرف، أو مبتدأ، والظرف خبر مقدم عليه، وهذا أوجه.
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أَكْثَرُهُمْ: مبتدأ، ولا يَعْقِلُونَ: خبره، والجملة منهما خبر إِنَّ.
البلاغة:
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ استعارة تمثيلية، شبّه حال الذين يبدون آراءهم أمام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بحال من تقدم للسير أمام ملك أو حاكم عظيم، وكان عليه أدبا أن يسير خلفه.

صفحة رقم 214

وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ تشبيه مرسل مجمل، لوجود أداة التشبيه.
المفردات اللغوية:
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لا تقدّموا أمرا أو حكما أو رأيا دونهما، أو لا تتقدموا، مأخوذ من مقدّمة الجيش: من تقدم منهم، والمراد: لا تقولوا بخلاف القرآن والسنة، والمراد ب بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أمامهما وَاتَّقُوا اللَّهَ خافوه واحذروا مخالفة أمره ونهيه في التقديم أو مخالفة الحكم وغيرهما سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم.
لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي إذا كلمتموه، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ أي إذا ناجيتموه، فلا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته، أو لا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا إجلالا له، وخاطبوا ب «يا أيها النبي» أو «يا رسول اللَّه». وتكرير النداء بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لمزيد الاستبصار وضبط النفس، وزيادة الاهتمام به والتعظيم له أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي لئلا «١» أو كراهة وخشية أن تحبط، أي يبطل ثواب أعمالكم، لأن في رفع الصوت والجهر استخفافا قد يؤدي إلى الكفر المحبط إذا ضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أنها محبطة.
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ يخفضونها ويلينونها عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة للأدب أو مخافة مخالفة النهي امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ اختبرها، والمراد: طهرها ونقّاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة لِلتَّقْوى أي مرّنها على التقوى، وأعدها لها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ثواب عظيم لغضهم الصوت وسائر طاعاتهم، وتنكير أَجْرٌ للتعظيم.
مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أي من خلف وخارج غرف نسائه صلّى اللَّه عليه وسلّم، جمع حجرة: وهي قطعة من الأرض تحجّر بحائط ونحوه مثل الغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة أمام منصب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ أي لو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال، لما فيه من الأدب وتعظيم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الموجبين للثناء والثواب وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين للأدب، التاركين تعظيم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.

(١) قال الزجاج: التقدير: لأن تحبط، فاللام المقدّرة لام الصيرورة.

صفحة رقم 215

سبب النزول:
نزول الآية (١) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا..: أخرج البخاري والترمذي وغيرهما عن ابن أبي مليكة أن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنه أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر:
بل أمرّ الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر:
ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا أي أن الآيات نزلت في مجادلة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تأمير القعقاع بن معبد أو الأقرع بن حابس.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن البصري: أن أناسا ذبحوا قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم النحر، فأمرهم أن يعيدوا ذبحا، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا...
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأضاحي بلفظ: ذبح رجل قبل الصلاة فنزلت. وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة: أن أناسا كانوا يتقدمون الشهر، فيصومون قبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
نزول الآية (٢) :
لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل اللَّه: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية.
وروي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس كان في أذنه وقر، وكان

صفحة رقم 216

جهوري الصوت، وكان إذا كلّم إنسانا جهر بصوته، فربما كان يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيتأذّى بصوته، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
نزول الآية (٣) :
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ:
أخرج ابن جرير عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: لما نزلت هذه الآية: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمرّ به عاصم بن عدي بن العجلان، فقال:
ما يبكيك؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ، وأنا صيّت رفيع الصوت، فرفع ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعا به، فقال: أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟ قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ الآية.
والقصة مروية أيضا في الصحيحين عن أنس بن مالك.
وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ تألّى أبو بكر ألا يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا كأخي السّرار «١»، فأنزل اللَّه تعالى في أبي بكر: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ.
نزول الآية (٤) :
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ..: أخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعلوا ينادون:
يا محمد، يا محمد، فأنزل اللَّه: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآية.

(١) السرار: المسارّة، أي كصاحب السرار، أو كمثل المساررة لخفض صوته، والكاف صفة لمصدر محذوف.

صفحة رقم 217

وأخرج عبد الرزاق عن قتادة: أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد، إن مدحي زين، وإن شتمي شين، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ذاك هو اللَّه، فنزلت:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ الآية. وهو خبر مرسل له شواهد مرفوعة من حديث البراء وغيره عند الترمذي، بدون نزول الآية، وأخرج ابن جرير نحوه عن الحسن.
وأخرج أحمد بسند صحيح عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء الحجرات، فلم يجبه، فقال: يا محمد، إن حمدي، لزين، وإن ذمي لشين، فقال «ذلكم اللَّه».
وقال محمد بن إسحاق وغيره: نزلت في جفاة بني تميم، قدم وفد منهم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا المسجد، فنادوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء حجرته أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين، وإن ذمنا شين، فآذى ذلك من صياحهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج إليهم، فقالوا: إنا جئناك يا محمد نفاخرك، ونزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم.
التفسير والبيان:
هذه باقة من الآداب الخاصة في معاملة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من قبل المؤمنين على أساس من التوقير والاحترام والتعظيم.
١- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يا أيها المؤمنون إيمانا صحيحا، لا تتقدموا ولا تتعجلوا بقول أو حكم أو قضاء في أمر ما أو فعل قبل قضاء اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لكم فيه، فربما تقضون بغير حق، واتقوا اللَّه في كل أموركم، وراقبوه في عدم تخطي ما لم

صفحة رقم 218

يأذن به اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن اللَّه سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم ونياتكم، لا يخفى عليه شيء منكم.
وهذا نهي واضح عن مخالفة كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكر الرسول، لأنه مبلّغ عن اللَّه تعالى شرعه ودينه. قال ابن عباس في الآية:
لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من شرائع دينكم.
والآية شاملة أيضا ترتيب مصادر الاجتهاد،
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه، حيث قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن: «بم تحكم؟ قال: بكتاب اللَّه تعالى، قال فإن لم تجد؟
قال: بسنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما يرضي رسول اللَّه»

وهذا يعني أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه لكان تقديما بين يدي اللَّه ورسوله. والخلاصة: هذا أدب شامل القول والفعل والاجتهاد، ثم ذكر اللَّه تعالى أدبا في القول فقال:
٢- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله إذا تكلمتم مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، لأن رفع الصوت يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، وخفض الصوت وعدم رفعه من التعظيم والتوقير. وهذا أدب ثان أدّب اللَّه تعالى به المؤمنين، وهو أدب محمود مع كل الناس أيضا.
٣- وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي وإذا كلمتموه فخاطبوه بالسكينة والوقار، خلافا لما تعتادونه من الجهر بالقول الدائر بينكم، ولا تقولوا: يا محمد ويا أحمد، ولكن يا نبي اللَّه، ويا رسول اللَّه، توقيرا له،

صفحة رقم 219

وتقديرا لمهمته ورسالته التي يبلغكم بها في سكون وهدوء وعدم انزعاج وتبرم نفسي. وهذا أدب ثالث.
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي نهاكم اللَّه عن الجهر غير المعتاد وعن رفع الصوت خشية أن يذهب ثواب أعمالكم، أو أن يؤدي الاستخفاف به إلى الكفر، من حيث لا تشعرون بذلك، كما
جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن بلال بن الحارث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى لا يلقي لها بالا، يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه تعالى لا يلقي لها بالا، يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض».
وبعد أن حذر من خطر المخالفة، رغّب اللَّه تعالى في خفض الصوت وحث عليه قائلا:
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي إن الذين يخفضون أصواتهم في أثناء كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي مجالسه، أخلص اللَّه قلوبهم للتقوى، ومحّصها، وجعلها أهلا ومحلا، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه، ويسقط خبيثه، فكذلك هؤلاء المتأدبون عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، طهر اللَّه قلوبهم من كل قبيح، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات. ونحو الآية: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح ٤٨/ ٩].
روى الإمام أحمد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية، ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي اللَّه عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.

صفحة رقم 220

ثم ذم اللَّه تبارك وتعالى الذين ينادون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خلف أو قدام الحجرات، وهي بيوت نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، فقال تعالى مرشدا لهم إلى ما هو الخير والأفضل:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي إن الذين ينادونك من بعيد، من وراء حجرات (بيوت) نسائك، وهم جفاة بني تميم أكثرهم جهال لا يعقلون الأصول والآداب والأشياء، ولا يدركون ما يجب لك من التعظيم والاحترام. وقوله: أَكْثَرُهُمْ إما أن يراد به الكل، لأن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام، أو يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي وليتهم لو صبروا حتى تخرج إليهم كالمعتاد، لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة، لما فيه من رعاية حسن الأدب مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورعاية جانبه الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال، واللَّه غفور لذنوب الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال، واللَّه غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب. وهذا حث على التوبة والإنابة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وجوب طاعة اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتقديم حكم القرآن والسنة على ما سواهما.
٢- تعليم العرب وغيرهم مكارم الأخلاق وفضائل الآداب، إذ كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتلقيب الناس.
٣- قال القرطبي وابن العربي: قوله تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإيجاب اتباعه والاقتداء

صفحة رقم 221

به. وربما احتج نفاة القياس بهذه الآية، وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يديه، وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشريعة، فليس فيه تقديم بين يديه «١».
٤- الأمر بالتقوى وإيجابها عام في كل الأوامر والنواهي الشرعية، ومنها التقدم بين يدي اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم المنهي عنه، واللَّه يراقب الناس، فهو سميع لأقوالهم، عليم بأفعالهم.
٥- يجب خفض الصوت أثناء مخاطبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والامتناع من الجهر بالأصوات أعلى من صوته، وإلا لم يتحقق من المؤمنين الاحترام الواجب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وليس المراد النهي عن الجهر مطلقا بحيث يلزم الهمس، وإنما النهي عن جهر مخصوص مقيد بصفة، وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب عنها.
٦- ويجب أيضا على المؤمنين ألا يخاطبوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقولهم: يا محمد، ويا أحمد، ولكن: يا نبي اللَّه، ويا رسول اللَّه، توقيرا له.
والهدف من هذين الواجبين تعظيم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته.
٧- قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كلّ حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه اللَّه تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا

(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٠٢ وما بعدها، أحكام القرآن: ٤/ ١٧٠١ وما بعدها.

صفحة رقم 222

[الأعراف ٧/ ٢٠٤] وكلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه «١».
٨- إن النهي المذكور عن رفع الصوت هو الصوت الذي لا يناسب ما يهاب به العظماء ويوقّر الكبراء. أما الصوت المرفوع الذي يقصد به الاستخفاف والاستهانة، فلا شك أنه كفر. وأما الصوت الذي يرفع في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو ونحو ذلك، فليس منهيا عنه، لأنه لمصلحة، ففي الحديث أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتا، يروى أن غارة أتتهم يوما، فصاح العباس:
يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته.
٩- إن مخالفة النهي في الآية برفع الصوت أكثر من الحالة المتوسطة المعتادة يؤدي إلى إحباط الأعمال وإبطال الثواب. وليس قوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. ويكون قوله وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به.
١٠- إن الذي يخفضون أصواتهم عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له، أولئك الذين اختص اللَّه قلوبهم للتقوى، وطهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من اللَّه والتقوى، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم وهو الجنة.
١١- إن أعراب بني تميم الذين وفدوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا مسجد المدينة، ونادوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين،

(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٧٠٣. [.....]

صفحة رقم 223
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية