
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)القوم: الرجال خاصة، لأنهم القوّام بأمور النساء. قال الله تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ وقال عليه الصلاة والسلام: «النساء لحم على وضم «١» إلا ما ذب»
عنه» والذابون هم الرجال، وهو في الأصل جمع قائم، كصوّم وزوّر: في جمع صائم وزائر. أو تسمية بالمصدر. عن بعض العرب: إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما. أى قياما، واختصاص القوم بالرجال:
صريح في الآية وفي قول زهير:
أقوم آل حصن أم نساء «٣»
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن، وتنكير القوم والنساء
(٢). لم أره عن على، وأخرجه ابن المبارك في البر والصلة من قول عمر بن الخطاب، وكذلك رواه أبو عبيد وابراهيم الحربي في الغريب.
(٣).
وما أدرى وسوف إخال أدرى | أقوم آل حصن أم نساء |
فان تكن النساء مخبآت | فحق لكل محصنة اهتداء |

يحتمل معنيين: أن يراد: لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات «١» من بعض وأن تقصد إفادة الشياع، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة على التوحيد، «٢» إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله، ولا يأتى ما عليه من النهى «٣» والإنكار، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر، وكذلك كل من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به، فيؤدى ذلك- وإن أوجده واحد- إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما. وقوله تعالى عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر «٤» عن العلة الموجبة لما جاء النهى «٥» عنه، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء. والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرا من الساخر، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات، وإنما الذي يزن «٦» عند الله: خلوص الضمائر وتقوى القلوب، وعلمهم من ذلك بمعزل، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأتقى قلبا ممن هو على ضدّ صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهانة بمن عظمه الله، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرجيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه: خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه «٧». وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا «٨». وفي قراءة عبد الله: عسوا أن يكونوا، وعسين
(٢). عاد كلامه. قال: «وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة للاشعار... الخ» قال أحمد:
وهو في غاية الحسن لا مزيد عليه.
(٣). قوله «ولا يأتى ما عليه من النهى» أى يتلهى ولا يفعل ما عليه من نهى الساخر والإنكار عليه. (ع)
(٤). قال محمود: «وقوله عسى أن يكونوا خيرا منهم جواب للمستخبر عن علة النهى... الخ» قال أحمد: وهو من الطراز الأول.
(٥). قوله «لما جاء النهى عنه» لعل ما مصدرية، ولفظ عنه مزيد من ناسخ الأصل، أى: لمجيء النهى، وإلا: أى وإلا يكن مستأنفا. (ع) [.....]
(٦). قوله «وإنما الذي يزن عند الله» لعله يزين. (ع)
(٧). لم أره عنه، وفي ابن أبى شيبة عن أبى موسى من قوله نحوه.
(٨). أخرجه ابن أبى شيبة في الأدب المفرد من رواية إبراهيم عن ابن مسعود بهذا.

أن يكن، فعسى على هذه القراءة هي ذات الخبر كالتي في قوله تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ وعلى الأولى التي لا خبر لها كقوله تعالى وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً. واللمز: الطعن والضرب باللسان.
وقرئ: ولا تلمزوا- بالضم. والمعنى: وخصوا أيها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاجر بما فيه كى يحذره الناس» «١» وعن الحسن رضى الله عنه في ذكر الحجاج: أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول: يا أبا سعيد يا أبا سعيد، وقال لما مات: اللهم أنت أمته فاقطع سنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش «٢» يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتقى ولا من الناس يستحى: فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل:
الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها الرجل، هيهات دون ذلك السيف والسوط. وقيل: معناه لا يعب بعضكم بعضا، لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه. وقيل: معناه لا تفعلوا ما تلمزون به، لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة. والتنابز بالألقاب:
التداعي بها: تفاعل من نبزه، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ويقال: النبز «٣» والنزب: لقب السوء والتلقيب المنهي عنه، وهو ما يتداخل المدعوّ به كراهة لكونه تقصيرا به وذمّا له وشينا، فأما ما يحبه مما يزينه وينوّه به فلا بأس به. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه» «٤» ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن.
(٢). قوله «فانه أتانا أخيفش أعيمش» في الصحاح «الخفش» : صغر في العين، وضعف في البصر خلقة والرجل أخفش. وفيه: العمش في العين: ضعف الرؤية مع سيلان الدمع. والرجل أعمش اه. وأخيفش وأعيمش تصغير: أخفش وأعمش. (ع)
(٣). قوله «ويقال النبز» في الصحاح «النبز» بالتحريك: اللقب، وبالتسكين: المصدر. (ع)
(٤). لم أجده هكذا، وروى البيهقي في الشعب في الحادي والستين عن عثمان بن طلحة الحجى رفعه قال «ثلاث مصفين لك ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه» وفيه موسى بن عبد الملك بن عمير وهو ضعيف. وروى أبو يعلى والطبراني من حديث ذيال بن عبيد بن حنظلة حدثني جدي حنظلة بن جذيم قال: «كان رسول الله ﷺ يعجبه أن يدعى الرجل بأحب الأسماء إليه».

قال عمر رضى الله عنه: أشيعوا الكي فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصدّيق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف الله. وقلّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجرى في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. روى عن الضحاك أن قوما من بنى تميم استهزؤا ببلال وخباب وعمار وصهيب وأبى ذرّ وسالم مولى حذيفة، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة. وعن ابن عباس أن أمّ سلمة ربطت حقويها بسبيبة، «١» وسدلت طرفها خلفها وكانت تجرّه، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجرّ خلفها كأنه لسان كلب. وعن أنس: عيرت نساء رسول الله ﷺ أمّ سلمة بالقصر.
وعن عكرمة عن ابن عباس أن صفية بنت حيّى أتت رسول الله ﷺ فقالت:
إن النساء يعيرننى ويقلن يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلا قلت إن أبى هرون وإن عمى موسى وإن زوجي محمد» «٢» وروى أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله ﷺ ليسمع، فأتى يوما وهو يقول: تفسحوا لي، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، فقال لرجل: تنح، فلم يفعل، فقال: من هذا؟ فقال الرجل. أنا فلان، فقال: بل أنت ابن فلانة، يريد: أمّا كان يعير بها في الجاهلية، فخجل الرجل فنزلت، فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا «٣» الِاسْمُ هاهنا بمعنى الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته. وحقيقته: ما سما من ذكره وارتفع بين الناس.
ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين «٤» بسبب ارتكاب
(٢). ذكره الثعلبي عن عكرمة، عن ابن عباس بغير إسناد وفي الترمذي من رواية هاشم بن سعيد الكوفي: حدثنا كنانة حدثتنا صفية بنت حيي قالت «دخلت على النبي ﷺ وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام. فذكرت ذلك له فقال: ألا قلت: وكيف تكونا خيرا منى وزوجي محمد ﷺ وأبى هارون وعمى موسى عليهما الصلاة والسلام. وكان الذي بلغها أنهن قلن نحن أكرم على رسول الله ﷺ منها وخير منها نحن أزواجه وبنات عمه» وقال: غريب. وليس إسناده بذاك. وروى الترمذي وابن حبان وأحمد والطبراني من رواية معمر عن ثابت عن أنس قال. «بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودى فبكت... فذكر معناه.
(٣). ذكره الثعلبي، ومن تبعه عن ابن عباس بغير سند.
(٤). قال محمود: «الاسم هاهنا الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم. كأنه قال: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين... الخ» قال أحمد: أقرب الوجوه الثلاثة ملائمة لقاعدة أهل السنة وأولاها: هو أولها، ولكن بعد صرف الذم إلى نفس الفسق، وهو مستقيم لأن الاسم هو المسمى. ولكن الزمخشري لم يستطع ذلك: انحرافا إلى قاعدة: يصرف الذم إلى ارتفاع ذكر الفسق من المؤمن، تحوما على أن الاسم التسمية، ولا شك أن صرف الذم إلى نفس الفسق أولى. وأما الوجه الثاني، فأدخله ليتم له حمل الاسم على التسمية صريحا. وأما الثالث فليتم له أن الفاسق غير مؤمن، وكلا القاعدتين مخالف للسنة فاحذرهما، وبالله التوفيق. ولقد كشف الله لي عن مقاصده، حتى ما تنقلب له كلمة متحيزة إلى فئة البدعة إلا إذا أدركها الحق فكلمها، ولله الحمد.