عنه ابن سعد لما نزل بها جبريل عليه السلام قال: نهنيك يا رسول الله فلما هناه جبريل عليه السلام هناه المسلمون،
ويحكى أنه من قرأها أول ليلة من رمضان حفظ ذلك العام ولم يثبت ذلك في خبر صحيح والله تعالى أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ إخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور وروي ذلك عن ابن عباس وانس والشعبي والزهري قال ابن عطية: وهو الصحيح، وأصل الفتح إزالة الاغلاق، وفتح البلد كما في الكشاف الظفر به عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح، وسمي ذلك الصلح فتحا لاشتراكهما في الظهور والغلبة على المشركين فإنهم كما قال الكلبي ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم، وعن ابن عباس أن المسلمين رموهم أي بسهام وحجارة كما قيل حتى أدخلوهم ديارهم أو لأن ذلك الصلح صار سببا لفتح مكة، قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام، قال القرطبي: فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها، والتسمية على الأول من باب الاستعارة التبعية كيفما قررت، وعلى الثاني من باب المجاز المرسل سواء قلنا إنه في مثل ما ذكر تبعي أم لا حيث سمي السبب باسم المسبب، ولا مانع من أن يكون بين شيئين نوعان من العلاقة فيكون استعمال أحدهما في الآخر باعتبار كل نوعا من المجاز كما في المشفر والشفة الغليظة لإنسان، وإسناد الفتح المراد به الصلح الذي هو فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه عزّ وجلّ مجاز من إسناد ما للقابل للفاعل الموجود، وفي ذلك من تعظيم شأن الصلح والرسول عليه الصلاة والسلام ما فيه لا يقال: قد تقرر في الكلام أن الأفعال كلها مخلوقة له تعالى فنسبة الصلح إليه سبحانه إسناد إلى ما هو له فلا مجاز لأنا نقول: ما هو له عبارة عما كان الفعل حقه أن يسند إليه في العرف سواء كان مخلوقا له تعالى أو لغيره عزّ وجلّ كما صرح به السعد في المطول وكيف لا ولو كان كذلك لكان إسناد جميع الأفعال إلى غيره تعالى مجازا وإليه تعالى حقيقة كالصلاة والصيام وغيرهما.
وقال المحقق ميرزا جان: يمكن توجيه ما في الآية الكريمة على أنه استعارة مكنية أو على أن يراد خلق الصلح
وإيجاده أو على أن يكون المجاز في الهيئة التركيبية الموضوعة للإسناد إلى ما هو له فاستعملت في الإسناد إلى غيره أو على أن يكون من قبيل الاستعارة التمثيلية، والأوجه الأربعة جارية في كل ما كان من قبيل المجاز العقلي كأنبت الربيع البقل، وقد صرح القوم بالثلاثة الأول منها، وزعم بعض أن الصلح مما يسند إليه تعالى حقيقة فلا يحتاج إلى شيء من ذلك وفيه ما فيه، ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن جعل المشركين في الحديبية مغلوبين خائفين طالبين للصلح ويكون الفتح مجازا عن ذلك وإسناده إليه تعالى حقيقة، وقد خفي كون ما كان في الحديبية فتحا على بعض الصحابة حتى بينه عليه الصلاة والسلام.
أخرج البيهقي عن عروة قال: «أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا وعكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك فقال: بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟ قال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا
، وفائدة الخبر بالفتح على الوجهين بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام لأنه صلّى الله عليه وسلّم يعلم ذلك وكذا يعلم لازم الفائدة كذا قيل.
وحمل الغير على من لم يحضر الفتح من الصحابة وغيرهم لأن الحاضرين علموا ذلك قبل النزول، وقيل:
الحاضر إنما علم وقوع الصلح أو كون المشركين بحيث طلبوه ولم يعلم كونه فتحا كما يشعر به الخبر، وإن سلم أنه علم ذلك لكنه لم يعلم عظم شأنه على ما يشعر به إسناده إلى نون العظمة والإخبار به بذلك الاعتبار.
وقال بعض المحققين: لعل المقصود بالإفادة كون ذلك للمغفرة وما عطف عليها فيجوز أن تكون الفائدة بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم أيضا، وأقول: قد صرحوا بأنه كثيرا ما تورد الجملة الخبرية لأغراض أخر سوى إفادة الحكم أو لازمه نحو رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران: ٣٦] رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: ٤] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: ٥٩] الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى فيجوز أن يكون الغرض من إيرادها هاهنا الامتنان دون إفادة الحكم أو لازمه ولا مجاز في ذلك ونحوه على ما أشار إليه العلامة عبد الحكيم السالكوتي في حواشيه على المطول.
وصرح في الرسالة الجندية بأن الهيئة التركيبية الخبرية في نحو ذلك منقولة إلى الإنشائية وان المجاز في الهيئة فقط لا في الأطراف ولا في المجموع وهو مجاز مفرد عند صاحب الرسالة والكلمة أعظم من اللفظ الحقيقي والحكمي، وبعضهم يقول: هو مجاز مركب ولا ينحصر في التمثيلية، وتحقيقه في موضعه.
والتأكيد بأن للاعتناء لا لرد الإنكار وقيل لأن الحكم لعظم شأنه مظنة للإنكار. وقيل: لأن بعض السامعين منكر كون ما وقع فتحا، ويقال في تكرير الحكم نحو ذلك، وقال مجاهد: المراد بالفتح فتح خيبر وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام، وكان خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قال ابن إسحق ورجحه الحافظ ابن حجر في بقية المحرم سنة سبع وأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها ونقل عن مالك وجزم به ابن حزم أنه كان في آخر سنة ست، وجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو شهر ربيع الأول، وقول الشيخ أبي حامد في التعليقة: إن غزوة خيبر كانت سنة خمس وهم، وقول ابن سعد. وابن أبي شيبة رواية عن أبي سعيد الخدري، انها كانت لثمان عشرة من رمضان خطأ، ولعل الأصل كانت حنين فحرف ومع
هذا يحتاج إلى توجيه وقد فتحت على أيدي أهل الحديبية لم يشركهم أحد من المتخلفين عنها فالفتح على حقيقة وإسناده إليه تعالى على حد ما سمعت فيما تقدم، والتأكيد بأن وتكرير الحكم للاعتناء، والتعبير عن ذلك بالماضي مع أنه لم يكن واقعا يوم النزول بناء على ما روي عن المسور بن مخرمة من أن السورة نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة من باب مجاز المشارفة نحو من قتل قتيلا على المشهور أو الأول نحو إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف:
٣٦] ولا يضر اختلافهما في الفعلية والاسمية وفيه وجه آخر يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وذهب جماعة إلى أنه فتح مكة وهو كما في زاد المعاد الفتح الأعظم الذي أعز الله تعالى به دينه واستنقذ به بلده وطهر حرمه واستبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس بعده في دين الله عز وجل أفواجا وأشرق وجه الدهر ضياء وابتهاجا، وكان سنة ثمان وفي رواية ونصف، وقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان، وفتح مكة لثلاث عشرة خلت منه على ما روي عن الزهري، وروي عن جماعة أنه كان الفتح في عشر بقيت من شهر رمضان وقيل غير ذلك، وكان معه صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين عشرة آلاف وقيل: إثنا عشر ألفا، والجمع ممكن، وكان الفتح عند الشافعي صلحا وهي رواية عن أحمد للتأمين في ممر الظهران بمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، ولعدم قسمة الدور بين الغانمين، وذهب الأكثرون إلى أنه عنوة للتصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد
وقوله، عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي ساعة من نهار»
ولا يسمى ذلك التأمين صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه به الكف عن القتال، والأخبار الصحيحة ظاهرة في أن قريشا لم يلتزموا، وترك القسمة لا يستلزم عدة العنوة فقد تفتح البلدة عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم.
وأقام عليه الصلاة والسلام بعد الفتح خمس عشرة ليلة في رواية البخاري وسبع عشرة في رواية أبي داود وثمان عشرة في رواية الترمذي، وتسع عشرة في رواية بعض، وتمام الكلام في كتب السير، واستظهر هذا القول أبو حيان وذكر أنه المناسب لآخر السورة التي قبل لما قال سبحانه: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ [محمد: ٣٨] الآية فبين جل وعلا أنه فتح لهم مكة وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم، وأيضا لما قال سبحانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد: ٣٥] بين تعالى برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلين، وأيضا لما قال تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد: ٣٥] كان ذلك في فتح مكة ظاهرا حيث لم يلحقهم وهن ولا دعوا إلى الصلح بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين وهذا ظاهر بالنسبة إلى القول بأن المراد به فتح الحديبية، وأما على القول بأن المراد به فتح خيبر فليس كذلك، ورجح بعضهم القول بأنه صلح الحديبية على القول بأنه فتح مكة بأن وعدم فتح مكة يجيء صريحا في هذه السورة الكريمة وذلك قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٧] الآية فلو حمل هذا الفتح عليه لكان تأكيدا بخلاف ما إذا حمل على صلح الحديبية فإنه يكون تأسيسا والتأسيس خير من التأكيد، ورجحه بعض على القول بأنه فتح خيبر بمثل هذا لأن فتح خيبر مذكور فيما بعد أيضا، وللبحث في ذلك مجال، وان التكرير لما تقدم، وكذا الإسناد إلى ضمير العظمة بل هذا الفتح أولى بالاعتناء وتعظيم الشأن حتى قيل: إن اسناده إليه تعالى لكونه من الأمور الغريبة العجيبة التي يخلقها الله تعالى على يد أنبيائه عليهم السلام كالرمي بالحصى المشار إليه بقوله تعالى:
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: ١٧] وهذا خلاف ظاهر، والمشهور أن في الكلام مجازا عقليا وفيه الاحتمالات السابقة.
وقال بعض المحققين: يمكن أن يقال: لعل الإرادة هاهنا معتبرة إما على سبيل الحذف أو على المجاز المرسل
كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: ٦] الآية، وقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨] عند أكثر الأئمة، ومثل هذا التأويل قيل: مطرد في الأفعال الاختيارية، وزعم بعضهم أن الفتح مجاز عن تيسيره، وذكر بعض الصدور في توجيه التأكيد بأن هاهنا أنه قد يجعل غير السائل بمنزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بالخبر، وصرحوا بأن الملوح لا يلزم أن يكون كلاما، وقد ذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن عليه الصلاة والسلام رأى في المنام أنه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم دخلوا مكة آمنين فصار المقام مقام أن يتردد في الفتح فألقي إليه عليه الصلاة والسلام الكلام مؤكدا كما يلقى إلى السائل كذلك، وجوز أن يكون لرد الإنكار بناء على تحققه من المشركين فإنهم كانوا يزعمون أنه صلّى الله عليه وسلّم لا يستولي على مكة كما لم يستول عليها من أراد الاستيلاء عليها قبله عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى، وذكر بعض أجلة القائلين بأن المراد به فتح مكة أن الكلام وعد بفتحها فقيل إن الجملة حينئذ إخبار، وقيل: إنها إنشاء، واستشكل بما صرح به الرضي من أن الجمل الإنشائية منحصرة بالاستقراء في الطلبية والإيقاعية والوعد ليس شيئا منهما أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن مجرد قولك لأكرمنك مثلا لا يقع به الإكرام، وقال بعض الصدور إن كلامهم مضطرب في كون الوعد إنشاء أو إخبارا، ويمكن التوفيق بأن يقال: أصل الوعد إنشاء لأنه إظهار أمر في النفس يوجب سرورة المخاطب وما يتعلق به الوعد وهو الموعود إخبار نظيره قول النحاة كأن لإنشاء التشبيه مع أن مدخولها جملة خبرية.
وقال الخفاجي: هذا ناشىء من عدم فهم المراد منه. فإن قيل: المراد من لأكرمنك مثلا إكرام في المستقبل فهو خبر بلا مرية، وإن قيل: معناه العزم على إكرامه وتعجيل المسرة له بإعلامه فهو إنشاء، وأقول لا يخفى أن الإخبار أصل للإنشاء، وقد صرح بذلك العلامة التفتازاني في المطول وليست هيئة المركب دالة على أنه إنشاء وليس فيه ما يدل بمادته على ذلك فيمكن أن يقال: إنه إخبار قصد به تعجيل المسرة وإن ذلك لا يخرجه عن الإخبار نظير ما قيل في قوله تعالى:
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران: ٣٦] ونحوه فتدبر، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه، وفيه من تسلية قلوب الأصحاب وتسليتهم حيث صاروا محزونين غاية الحزن من تأخير الفتح ما فيه، وهذا التعبير من قبيل الاستعارة التبعية على ما حققه السيد السند في حواشي المطول حيث قال: اعلم أن التعبير عن المضارع بالماضي وعكسه يعد من باب الاستعارة بأن يشبه غير الحاصل بالحاصل في تحقق الوقوع ويشبه الماضي بالحاضر في كونه نصب العين واجب المشاهدة ثم يستعار لفظ أحدهما للآخر فعلى هذا تكون استعارة الفعل على قسمين: أحدهما أن يشبه الضرب الشديد مثلا بالقتل ويستعار له اسمه ثم يشتق منه قتل بمعنى ضرب ضربا شديدا. والثاني أن يشبه الضرب المستقبل بالضرب في الماضي مثلا في تحقق الوقوع فيستعمل فيه ضرب فيكون المعنى المصدري أعني الضرب موجودا في كل واحد من المشبه والمشبه به لكنه قيد في كل منهما بقيد يغار الآخر فصح التشبيه لذلك. وقال المحقق ميرزا جان يمكن توجيه الاستعارة هاهنا بوجه آخر وهو أن يشبه الزمان المستقبل بالزمان الماضي ووجه الشبه أنه كما أن الثاني ظرف أمر محقق الوقوع كذلك الزمان الأول واللفظ الدال على الزمان الثاني وهو لفظ الفعل الماضي من جهة الصيغة جعل دالا على الزمان المستقبل مستعملا فيه، ومن البيّن أن المصدر على حاله لم يتغير معناه فكانت الاستعارة في الصيغة والهيئة أولى لأنها الدالة على الزمان الماضي وبواسطتها كانت الاستعارة في الفعل كما كانت الاستعارة في الفعل بواسطة المصدر، والفرق أن هذه الاستعارة في الفعل بواسطة جوهره ومادته وفيما نحن فيه بواسطة صورته، لا يقال: الدال على الزمان هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأنا نقول: يجري هذا الاحتمال في الاستعارة التبعية المشهورة بأن يقال: الدال على المعنى الحدثي هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأن المصدر بصيغته غير متحقق في المشتق فإن الضرب غير موجود في ضارب وضرب.
فإن قلت: المصدر لفظ مستقل يمكن التعبير به عن معناه بخلاف الهيئة قلت: لفظ الزمان الماضي أيضا، كذلك فلا فرق في كل منهما: نستعير المعنى المطابقي للفظ الفعل بواسطة المعنى التضمني له، ولا يبعد أن يسمى مثل هذا استعارة تبعية، والأمر في التسمية هين لا اعتداد بشأنه، ولعلهم إنما جعلوا الاستعارة في مثل ذلك بواسطة المصدر واعتبروا التغاير الاعتباري ولم يعتبروا ما اعتبرنا من تشبيه نفس الزمان بالزمان حتى تصير الاستعارة في الفعل تبعية بلا تكلف رعاية لطي النشر بقدر الإمكان وأيضا في كون الصيغة والهيئة جزءا للفظ تأمل، وأيضا الهيئة ليست جزءا مستقلا كالمصدر، وأيضا الهيئة ليست لفظا والاستعارة قسم للفظ، ولعل القوم لهذه كلها أو بعضها لم يلتفتوا إليه انتهى، وفيه بحث، وللفاضل مير صدر الدين رسالة في هذه الآية الكريمة تعرض فيها للمحقق في هذا المقام، وتعقبها الفاضل يوسف القرباغي برسالة أطال الكلام فيها وجرح وعدل وذكر عدة احتمالات في الاستعارة التبعية، ومال إلى أن الهيئة لفظ محتجا بما نقله من شرح المختصر العضدي ومن شرح الشرح للعلامة التفتازاني وأيده بنقول أخر فليراجع ذلك فإنه وإن كان في بعضه نظر لا يخلو عن فائدة.
والذي يترجح عندي أن الهيئة ليست بلفظ ولكنها في حكمه وأنه قد يتصرف فيها بالتجوز كما في الخبر إذا استعمل في الإنشاء وإن المجاز المرسل يكون تبعيا بناء على ما ذكروه في وجه التبعية في الاستعارة، وقول الصدر في الفرق: إن العلاقة في الاستعارة ملحوظة حين الإطلاق فإنهم صرحوا بأن اسم المشبه به لا يطلق على المشبه إلا بعد دخوله في جنس المشبه به بخلاف المرسل فإن العلاقة باعثة للانتقال وليست ملحوظة حين الاستعمال فلا ضرورة في القول بالتبعية فيه إن تم لا يجدي نفعا فافهم، وزعم بعضهم أن التعبير بالماضي هاهنا على حقيقته بناء على أن الفتح مجاز عن تيسيره وتسهيله وهو مما لا يتوقف على حصول الفتح ووقوعه ليكون مستقبلا بالنسبة إلى زمن النزول مثله ألا ترى أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه تعالى بقوله: يَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: ٢٦] أن يسهل أمره وهو خلافته في أرضه وما يصحبها، وأجيب إليه في موقف السؤال بقوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: ٣٦] ولم يباشر بعد شيئا، وحمله على الوعد بإيتاء السؤال خلاف الظاهر، وأنت تعلم أن ما ذهب إليه الجمهور أظهر وأبلغ، وفي مجيء المستقبل بصيغة الماضي لتنزيله منزلة المحقق من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى كما في الكشاف، وذلك على ما قيل لأنه يدل على أن الأزمنة كلها عنده تعالى على السواء وان منتظره كمحقق غيره وأنه سبحانه إذا أراد أمرا تحقق لا محالة وأنه لجلالة شأنه إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من أسبابه القريبة والبعيدة، وقيل غير ذلك. واستشكل أمر المضي في كلامه تعالى بناء على ثبوت الكلام النفسي الأزلي للزوم الكذب لأن صدق الكلام يستدعي سبق وقوع النسبة ولا يتصور السبق على الأزل، وأجيب بأن كلامه تعالى النفسي الأزلي لا يتصف بالماضي وغيره لعدم الزمان. وتعقب بأن تحقق هذا مع القول بأن الأزلي مدلول اللفظي عسير جدا، وكذا القول بأن المتصف بالمضي وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم. وأجاب بعضهم بأن العسر لو كان دلالة اللفظي عليه دلالة الموضوع على الموضوع له وليس كذلك عندهم بل هي دلالة الأثر على المؤثر، ولا يلزم من اعتبار شيء في الأثر اعتباره في المؤثر، ولا يخفى أن كون الدلالة دلالة الأثر على المؤثر خلاف الظاهر، وقال ابن الصدر في ذلك: إن اشتمال الكلام اللفظي على المضي والحضور والاستقبال إنما هو بالنظر إلى زمان المخاطب لا إلى زمان المتكلم كما إذا أرسلت زيدا إلى عمرو تكتب في مكتوبك إليه إني أرسلت إليك زيدا مع أنه حين ما تكتبه لم يتحقق الإرسال فتلاحظ حال المخاطب، وكما تقدر في نفسك مخاطبا وتقول: لم تفعل الآن كذا وكان قبل ذلك كذا، ولا شك أن هذا المضي والحضور والاستقبال بالنسبة إلى زمان الوجود المقدر لهذا المخاطب لا بالنسبة إلى زمان
المتكلم بالكلام النفسي لكونه متوجها لمخاطب مقدر لا يلاحظ فيه إلا أزمنة المخاطبين المقدرين، وما اعتبره أئمة العربية من حكاية الحال الماضية واعتبار المضي والحضور والاستقبال في الجملة الحالية بالقياس إلى زمان الفعل لا زمان التكلم قريب منه جدا انتهى، وللمحقق ميرزا جان كلام في هذا المقام يطلب من حواشيه على الشرح العضدي.
وقيل: المراد بالفتح فتح الروم على إضافة المصدر إلى الفعل فإنهم غلبوا على الفرس في عام النزول، وكونه فتحا له عليه الصلاة والسلام لأنه أخبر عن الغيب فتحقق ما أخبر به في ذلك العام ولأنه تفاءل به لغلبة أهل الكتاب المؤمنين وفي ذلك من ظهور أمره صلّى الله عليه وسلّم ما هو بمنزلة الفتح، قيل: ففي الفتح استعارة لتشبيه ظهوره صلّى الله عليه وسلّم بالفتح، وقيل:
لا تجوز فيه وإنما التجوز في تعلقه به عليه الصلاة والسلام، وقيل: لا تجوز أصلا والمعنى فتحنا على الروم لأجلك.
وأنت تعلم أن حمل الفتح على ما ذكره في نفسه بعيد جدا.
وأورد عليه أن فتح الروم لم يكن مسببا على الجهاد ونحوه فلا يصح ما ذكروه في توجيه التعليل الآتي، وعن قتادة أن فَتَحْنا من الفتاحة بالضم وهي الحكومة أي إنا قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت وهو بعيد أيضا، وقيل: المراد به فتح الله تعالى له صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف وقريب منه ما نقله الرغب من أنه فتحه عز وجل له عليه الصلاة والسلام بالعلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة، وأمره في البعد كما سبق، وأيا ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح، وتقديم لَكَ على المفعول المطلق أعني قوله تعالى: فَتْحاً مُبِيناً مع أن الأصل تقديمه على سائر المفاعيل كما صرح به العلامة التفتازاني للاهتمام بكون ذلك لنفعه عليه الصلاة والسلام، وقيل: لأنه مدار الفائدة، و «مبين» من أبان بمعنى بان اللازم أن فتحا بينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقا بين الحق والباطل.
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مذهب الأشاعرة القائلين بأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض أن مثل هذه اللام للعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائية في ترتبه على متعلقها وترتب المغفر على الفتح من حيث إن فيه سعيا منه صلّى الله عليه وسلّم في إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب والسلف كما قال ابن القيم وغيره يقولون بتعليل أفعاله عز وجل، وفي شرح المقاصد للعلامة التفتازاني أن من بعض أدلتهم- أي الأشاعرة- ومن وافقهم على هذا المطلب يفهم أنهم أرادوا عموم السلب ومن بعضها أنهم أرادوا سلب العموم، ثم قال: الحق أن بعض أفعاله تعالى معلل بالحكم والمصالح وذلك ظاهر والنصوص شاهدة به، وأما تعميم ذلك بأنه لا يخلو فعل من أفعاله سبحانه من غرض فمحل بحث، وذكر الأصفهاني في شرح الطوالع في هذه المسألة خلافا للمعتزلة وأكثر الفقهاء، وأنا أقول: بما ذهب إليه السلف لوجود التعليل فيما يزيد على عشرة آلاف آية وحديث والتزام تأويل جميعها خروج عن الإنصاف، وما يذكره الحاضرون من الأدلة يدفع بأدنى تأمل كما لا يخفى على من طالع كتب السلفيين عليهم الرحمة. وفي الكشاف لم يجعل الفتح علة للمغفرة لكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين واغراض العاجل والآجل، وحاصله كما قال العلامة أن الفتح لم يجعل علة لكل من المتعاطفات بعد اللام أعني المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر بل لاجتماعها، ويكفي في ذلك أن يكون له دخل في حصول البعض كإتمام النعمة والنصر العزيز، وتحقيقه كما قال إن العطف على المجرور باللام قد يكون للاشتراك في متعلق اللام مثل جئتك لأفوز بلقياك وأحوز عطاياك ويكون بمنزلة تكرير اللام وعطف جار ومجرور على جار ومجرور، وقد يكون للاشتراك في معنى اللام
كجئتك لتستقر في مقامك وتفيض علي من إنعامك أي لاجتماع الأمرين، ويكون من قبيل جاءني غلام زيد وعمرو أي الغلام الذي لهما. واستظهر دفعا لتوهم أنه إذا كان المقصود البعض فذكر الباقي لغو أن يقال: لا يخلو كل منهما أن يكون مقصودا بالذات وهو ظاهر أو المقصود البعض وحينئذ فذكر غيره إما لتوقفه عليه أو لشدة ارتباطه به أو ترتبه عليه فيذكر للإشعار بأنهما كشيء واحد كقوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: ٢٨٢] وقولك: أعددت الخشب ليميل الحائط فأدعمه ولازمت غريمي لأستوفي حقي وأخليه. وظاهر كلام الزمخشري أن المقصود فيما نحن فيه تعليل الهيئة الاجتماعية فحسب فتأمل لتعرف أنه من أي الأقسام هو. واعلم أن المشهور كون العلة ما دخلته اللام لا ما تعلقت به كما هو ظاهر عبارة الكشاف لكن حقق أنها إذا دخلت على الغاية صح أن يقال:
إن ما بعدها علة ويراد بحسب التعقل وأن يقال: ما تعلقت به علة ويراد بحسب الوجود فلا تغفل. وزعم صاحب الغنيان أن اللام هاهنا هي لام القسم وكسرت وحذف النون من الفعل تشبيها بلام كي. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها فإنه لم يسمع والله ليقوم زيد على معنى ليقومن زيد، وانتصر له بأن الكسر قد علل بتشبيهها بلام كي.
وأما النصف فله أن يقول فيه: بأنه ليس نصبا وإنما هو الحركة التي تكون مع وجود النون بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف. وأنت تعلم أنه لا يجدي نفعا مع عدم السماع، هذا والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات قيل: للإشعار بأن كل واحد مما انتظم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه عز وجل من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته جل شأنه.
وقال الصدر لا يبعد أن يقال: إن التعبير عنه تعالى في مقام المغفرة بالاسم الجليل المشعر بصفات الجمال والجلال يشعر بسبق مغفرته تعالى على عذابه. وفي البحر لما كان الغفران وما بعده يشترك في إطلاقه الرسول عليه الصلاة والسلام وغيره لقوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨] وقوله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: ٣] وقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٤٠، ٤٧، ١٢٢] وقوله عز وجل: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: ١٤٢ وغيرها] وقوله تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات: ١٧٢] وكان الفتح مختصا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم أسنده الله تعالى إلى نون العظمة تفخيما لشأنه وأسند تلك الأشياء إلى الاسم الظاهر وضميره وهو كما ترى وإن قاله الإمام أيضا، وأقول: يمكن أن يكون في إسناد المغفرة إليه تعالى بالاسم الأعظم بعد إسناد الفتح إليه تعالى بنون العظمة إيماء إلى أن المغفرة مما يتولاها سبحانه بذاته وأن الفتح مما يتولاه جل شأنه بالوسائط، وقد صرح بعضهم بأن عادة العظماء أن يعبروا عن أنفسهم بصيغة المتكلم مع الغير لأن ما يصدر عنهم في الأكثر باستخدام توابعهم، ولا يعترض بأن النصر كالفتح وقد أسند إلى الاسم الجليل لما لا يخفى عليك، وتقديم لَكَ على المفعول الصريح أعني قوله تعالى: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ لما مر غير مرة، وما للعموم والمتقدم والمتأخر للإحاطة كناية عن الكل، والمراد بالذنب ما فرط من خلاف الأولى بالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام فهو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد يقال: المراد ما هو ذنب في نظره العالي صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يكن ذنبا ولا خلاف الأولى عنده تعالى كما يرمز إلى ذلك الإضافة.
وقال الصدر: يمكن أن يكون قوله تعالى: لِيَغْفِرَ إلخ كناية عن عدم المؤاخذة أو من باب الاستعارة التمثيلية من غير تحقق معاني المفردات. وأخرج ابن المنذر عن عامر. وأبي جعفر أنهما قالا: ما تقدم في الجاهلية وما تأخر في الإسلام، وقيل ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد وليس بشيء مع أن العكس أولى لأن حديث امرأة زيد متقدم. وفي الآية مع ما عهد من حاله صلّى الله عليه وسلّم من كثرة العبادة ما يدل على شرف مقامه إلى حيث لا تحيط به عبارة،
وقد
صح أنه صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت صام وصلّى حتى انتفخت قدماه وتعبد حتى صار كالشن البالي فقيل له: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك أو ما تأخر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبدا شكورا
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الدين وانتشاره في البلاد وغير ذلك مما أفاضه تعالى عليه صلّى الله عليه وسلّم من النعم الدينية والدنيوية «ويهديك صراطا مستقيما» في تبليغ الرسالة وإقامة الحدود، قيل: إن أصل الاستقامة وإن كان حاصلا قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا قبل وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ إظهار الاسم الجليل مع النصر قيل: لكونه خاتمة العلل أو الغايات ولإظهار كمال العناية بشأنه كما يعرب عنه إردافه بقوله تعالى: نَصْراً عَزِيزاً وقال الصدر: أظهر الاسم في الصدر وهنا لأن المغفرة تتعلق بالآخرة والنصر يتعلق بالدنيا فكأنه أشير بإسناد المغفرة والنصر إلى صريح اسمه تعالى إلى أن الله عز وجل هو الذي يتولى أمرك في الدنيا والآخرة، وقال الإمام:
أظهرت الجلالة هنا إشارة إلى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى كما قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: ١٢٦، الأنفال: ١٠] وذلك لأن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:
١٢٧] لأنه سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨] والعزيز بحسب الظاهر هو المنصور، وحيث وصف به النصر فهو إما للنسبة وإن كان المعروف فيها فاعلا كلابن وفعالا كبزاز أي نصرا فيه عز ومنعة، أو فيه تجوز في الإسناد من باب وصف المصدر بصيغة المفعول وهو المنصور هنا نحو عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: ١٠] في قول لا الفاعل وهو الناصر لما قيل من عدم مناسبته للمقام وقلة فائدته إذ الكلام في شأن المخاطب المنصور، لا المتكلم الناصر وفيه شيء، وقيل: الكلام بتقدير مضاف أي عزيز صاحبه وهو المنصور وفيه تكلف الحذف والإيصال.
وقد يقال: يحتاج إلى شيء مما ذكر إذ لا مانع من وصف النصر بالعزيز على ما هو الظاهر بناء على أحد معاني العزة وهو قلة الوجود وصعوبة المنال، والمعنى ينصرك الله نصرا يقل وجود مثله ويصعب مناله، وقد قال الراغب بهذا في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: ٤١] ورأيت ذلك للصدر بعد أن كتبته من الصدر فتأمل ولا تكن ذا عجز.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بيان لما أفاض سبحانه عليهم من مبادئ الفتح، والمراد بالسكينة الطمأنينة والثبات من السكون أي أنزلها في قلوبهم بسبب الصلح والأمن إظهارا لفضله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والمراد بإنزالها خلقها وإيجادها، وفي التعبير عن ذلك بالإنزال إيماء إلى علو شأنها.
وقال الراغب: إنزال الله تعالى نعمته على عبد إعطاؤه تعالى إياها وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن أو بإنزال أسبابه والهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه، وقيل: أَنْزَلَ من نزل في مكان كذا حط رحله فيه وأنزله غيره، فالمعنى حط السكينة في قلوبهم فكان قلوبهم منزلا لها ومأوى، وقيل: السكينة ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه كما
روي أن عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال: إن السكينة لتنطق على لسان عمر،
وأمر الإنزال عليه ظاهر جدا.
وأخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: السكينة هي الرحمة، وقيل: هي العقل ويقال له سكينة إذا سكن عن الميل إلى الشهوات وعن الرعب، وقيل: هي الوقار والعظمة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي من سكن إلى كذا مال إليه أي أنزل في قلوبهم السكون والميل إلى ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الشرائع، وأرجح التفاسير هنا على ما قال الخفاجي: الأول، وما ذكره بعضهم من أن السكينة شيء له رأس كرأس الهرة فما أراه
قولا يصح لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفوس عليها على أن الإيمان لما ثبت في الأزمنة نزل تجدد أزمانه منزلة تجدده وازدياده فاستعير له ذلك ورشح بكلمة مع، وقيل: ازدياد الإيمان بازدياد ما يؤمن به، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول ما أتاهم به النبي صلّى الله عليه وسلّم التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ومن قال: الأعمال من الإيمان قال بأنه نفسه أي الإيمان المركب من ذلك وغيره يزيد وينقص ولم يحتج في الآية إلى تأويل بل جعلها دليلا له، وتفصيل الكلام في هذا المقام أنه ذهب جمهور الأشاعرة والقلانسي والفقهاء والمحدثون والمعتزلة إلى أن الإيمان يزيد وينقص ونقل ذلك عن الشافعي ومالك، وقال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل، أما الأول فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء عليهم السلام مثلا واللازم باطل فكذا الملزوم، وأما الثاني فلكثرة النصوص في هذا المعنى، منها الآية المذكورة، ومنها ما
روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا: يا رسول الله ان الإيمان يزيد وينقص قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار
، ومنها ما
روي عن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به»
واعترض بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده.
أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا، وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل من مقولة الكم وإنما قيل هو كيف أو انفعال أو إضافة وتعلق بين العالم والمعلوم أو صفة ذات إضافة والأشهر أنه كيف فمتى صح ذلك وقلنا بمغايرة الشدة والضعف للزيادة والنقص فلا بأس بحملهما في النصوص وغيرها على الشدة والضعف وذلك مجاز مشهور، وإنكار اتصاف الإيمان بهما يكاد يلحق بالمكابرة فتأمل، وذكر بعضهم هنا أن الإيمان الذي هو مدخول مع هو الإيمان الفطري والإيمان المذكور قبله الإيمان الاستدلالي فكأنه قيل: ليزدادوا إيمانا استدلاليا مع إيمانهم الفطري، وفيه من الخفاء ما فيه وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبر أمرها كيفما يريد فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع سبحانه بينها السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، ومن قضية ذلك ما وقع في الحديبية وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم بجميع الأمور حَكِيماً في تقديره وتدبيره عز وجل.
وقوله سبحانه لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها متعلق بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السموات والأرض له جل شأنه من معنى التصرف والتدبير، وقد صرح بعض الأفاضل بأنه كناية عنه أي دبر سبحانه ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله تعالى في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة فالعلة في الحقيقة معرفة النعمة وشكرها لكنها لما كانت سببا لدخول الجنة أقيم المسبب مقام السبب. وقيل: متعلق بفتحنا، وقيل: بأنزل، وتعلقه بذلك مع تعلق اللام الأخرى به مبني على تعلق الأول به مطلقا والثاني مقيدا وتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين وإلا فلا يتعلق بعامل واحد حرفا جر بمعنى واحد من غير اتباع، وقيل: متعلق بينصرك، وقيل:
بيزداد، وقيل: بجميع ما ذكر إما على التنازع والتقدير أو بتقدير ما يشمل ذلك كفعل سبحانه ما ذكر ليدخل إلخ، وقيل: هو بدل من ليزداد بدل اشتمال فإن إدخال المؤمنين والمؤمنات الجنة وكذا ما عطف عليه مستلزم لزيادة الإيمان وبدل الاشتمال يعتمد على ملابسة ما بين المبدل والمبدل منه بحيث يشعر أحدهما بالآخر غير الكلية والبعضية، ولعل
الأظهر الوجه الأول، وضم المؤمنات هاهنا إلى المؤمنين دفعا لتوهم اختصاص الحكم بالذكور لأجل الجهاد والفتح على أيديهم، وكذا في كل موضع يوهم الاختصاص يصرح بذكر النساء، ويقال نحو ذلك فيما بعد كذا قيل.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن أنس قال: «أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر في مرجعه من الحديبية فقال: لقد أنزلت علي آية هي أحبّ إليّ مما على الأرض ثم قرأها عليهم فقالوا: هنيئا مريئا يا رسول الله قد بين الله تعالى لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات حتى بلغ فوزا عظيما».
وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي يغطيها ولا يظهرها، والمراد يمحوها سبحانه ولا يؤاخذهم بها، وتقديم الإدخال في الذكر على التكفير مع أن الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلوب إلا على كذا قال غير واحد، ويجوز عندي أن يكون التفكير في الجنة على أن المعنى يدخلهم الجنة ويغطي سيئاتهم ويسترها عنهم فلا تمر لهم ببال ولا يذكرونها أصلا لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم، وقد مر مثل ذلك.
وَكانَ ذلِكَ أي ما ذكر من الإدخال والتكفير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره لأنه منتهى ما تمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر، وعِنْدَ اللَّهِ حال من فَوْزاً لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال، والجماعة إنما يقولون: إنها شرط كمال في الإيمان فلا يلزم عند الانتفاء إلا انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان.
وقال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام: إن الإيمان بمعنى التصديق القلبي يزيد وينقص أيضا بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. واعترض بأنه متى قبل ذلك كان شكا.
ودفع بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنها لا شك معها وممن وافق النووي على ما جزم به السعد في القسم الثاني من تهذيبه، وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وتبعه أصحابه وكثير من المتكلمين الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين، واحتجوا بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، فالمصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة. وأجابوا عما تمسك به الأولون بوجوه، منها ما أشرنا إليه أولا من أن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والأوقات. وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين:
النبي صلّى الله عليه وسلّم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي عليه الصلاة والسلام متوالية ولغيره على الفترات فثبتت للنبي صلّى الله عليه وسلّم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه صلّى الله عليه وسلّم أكثر، والزيادة بهذا المعنى قيل مما لا نزاع فيها.
واعترض بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه كسواد الجسم، ودفع بأن المراد زيادة أعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، ومنها ما أشرنا إليه ثانيا من أن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين آمنوا أولا بما آمنوا به وكانت الشريعة لم تتم وكانت الأحكام تنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصره صلّى الله عليه وسلّم لإمكان الاطلاع على التفاصيل في غيره من العصور أيضا، ومنها أن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإن نور
الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، قيل: وهذا إنما يحتاج إليه بعد إقامة قاطع على امتناع قبول التصديق الزيادة والنقص ومتى لم يقم قاطع على ذلك كان الأولى إبقاء الظواهر على حالها، وقال الخطابي: الإيمان قول وهو لا يزيد ولا ينقص وعمل وهو يزيد وينقص واعتقاد وهو يزيد ولا ينقص فإذا نقص ذهب واعترض أنه إذا زاد ثم عاد إلى ما كان فقد نقص ولم يذهب.
ودفع بأن مراده أن الاعتقاد باعتبار أول مراتبه يزيد ولا ينقص لا أن الاعتقاد مطلقا كذلك، وذهب جماعة منهم الإمام الرازي. وإمام الحرمين إلى أن الخلاف لفظي وذلك بحمل قول النفي على أصل الإيمان وهو التصديق فلا يزيد ولا ينقص وحمل قول الإثبات على ما به كماله وهو الأعمال فيكون الخلاف في هذه المسألة فرع الخلاف في تفسير الإيمان، والحق أنه حقيقي لما سمعت عن الإمام النووي ومن معه من أن التصديق نفسه يزيد وينقص.
وقال بعض المحققين: إن الزيادة والنقص من خواص الحكم والتصديق قسم من العلم ولم يقل أحد بأنه أعربت حالا، وكونه يجوز فيه الحالية إذا تأخر عن عَظِيماً لا ضير فيه كما توهم أي كائنا عند الله تعالى أي في علمه سبحانه وقضائه جل شأنه، والجملة اعتراض مقرر لما قبله، وقوله تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ عطف على يدخل أي وليعذب المنافقين إلخ ليغيظهم من ذلك، وهو ظاهر على جميع الأوجه السابقة في لِيُدْخِلَ حتى وجه البدلية فإن بدل الاشتمال تصححه الملابسة كما مر، وازدياد الإيمان على ما ذكرنا في تفسيره مما يغيظهم بلا ريب، وقيل: إنه على هذا الوجه يكون عطفا على المبدل منه، وتقديم المنافقين على المشركين لأنهم أكثر ضررا على المسلمين فكان في تقديم تعذيبهم تعجيل المسرة.
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي ظن الأمر الفاسد المذموم وهو أنه عز وجل لا ينصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وقيل: المراد به ما يعم ذلك وسائر ظنونهم الفاسدة من الشرك أو غيره عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دائرة السّوء» بالضم، والفرق بينه وبين السَّوْءِ بالفتح على ما في الصحاح أن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر بمعنى المساءة.
وقال غير واحد: هما لغتان بمعنى كالكره والكره عند الكسائي وكلاهما في الأصل مصدر غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جرى مجرى الشر، ولما كانت الدائرة هنا محمودة وأضيفت إلى المفتوح في قراءة الأكثر تعين على هذا أن يقال: إن ذاك على تأويل أنها مذمومة بالنسبة إلى من دارت عليه من المنافقين والمشركين واستعمالها في المكروه أكثر وهي مصدر بزنة اسم الفاعل أو اسم فاعل، وإضافتها على ما قال الطيبي من إضافة الموصوف إلى الصفة للبيان على المبالغة، وفي الكشف الإضافة بمعنى من على نحو دائرة ذهب فتدبر.
والكلام إما إخبار عن وقوع السوء بهم أو دعاء عليهم، وقوله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ عطف على ذلك، وكان الظاهر فلعنهم فأعد بالفاء في الموضعين لكنه عدل عنه للإشارة إلى أن كلا من الأمرين مستقل في الوعيد به من غير اعتبار للسببية فيه وَساءَتْ مَصِيراً جهنم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ذكر سابقا على أن المراد أنه عز وجل المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته فلذلك ذيل بقوله تعالى: عَلِيماً حَكِيماً وهاهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم ولذا ذيل بقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً فلا تكرار كما قال الشهاب، وقيل: إن الجنود جنود رحمة وجنود عذاب، والمراد به هنا الثاني كما ينبىء عنه التعرض لوصف العزة.