
وقوله سبحانه: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ قال قتادة: يريد كَفَّ أَيديهم عن أهل المدينة في مغيب النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين «١»، وَلِتَكُونَ آيَةً أي: علامة على نصر المؤمنين، وحكى الثعلبيُّ عن قتادة أَنَّ المعنى: كَفَّ اللَّه غطفان ومن معها حين جاؤوا لنصر خيبر «٢»، وقيل: أراد كفّ قريشا.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
وقوله سبحانه: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال ابن عباس: الإشارة إلى بلاد فارس والروم «٣»، وقال قتادة والحسن: الإشارة إلى مَكَّةَ «٤»، وهذا قول يَتَّسِقُ معه المعنى ويتأيَّد/.
وقوله: قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا معناه: بالقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ لأهلها، أي: قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أَنَّهم لم يقدروا عليها.
ت: قوله: وظهر فيها إِلى آخرهِ كلامٌ غير محصل، ولفظ الثعلبيِّ: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أي: وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها، قد أحاط اللَّه بها لكم حَتَّى يفتحها عليكم، وقال ابن عباس «٥» : علم اللَّه أَنَّه يفتحها لكم، قال مجاهد «٦» : هو ما فتحوه حتى اليوم، ثم ذكر بَقِيَّةَ الأقوال، انتهى.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٣٥).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥٣) رقم (٣١٥٤١)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٨) وابن عطية (٥/ ١٣٥).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥٤) برقم: (٣١٥٥١- ٣١٥٥٢) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٨)، وابن عطية (٥/ ١٣٥)، وابن كثير (٤/ ١٩١) عن قتادة، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٧١)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد.
(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ١٩٢).
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥٣) برقم: (٣١٥٤٥)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٨). [.....]

وقوله سبحانه: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني «١» : كفار قريش في تلك السنة لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
وقوله: سنة اللَّه أي: كَسُنَّةِ اللَّه، إشارةً إلى وقعة بدر، وقيل: إشارة إلى عادة اللَّه من نصر الأنبياء، ونصب «سنة» على المصدر.
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ... الآية، رُوِيَ في سببها أَنَّ قريشاً جمعت جماعة من فتيانها، وجعلوهم مع عِكْرِمَةَ بن أبي جهل، وخرجوا يطلبون غرَّةً في عسكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واختلف الناسُ في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً فلذلك اختصرته، فلمَّا أَحَسَّ بهم المسلمون بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أَثَرِهِمْ خالدَ بنَ الوليد، وسَمَّاهُ يومئذٍ سَيْفَ اللَّه في جملة من الناس، فَفَرُّوا أمامهم، حَتَّى أدخلوهم بُيُوتَ مَكَّةَ، وأَسَرُوا منهم جملة، فسيقوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَنَّ عليهم وأطلقهم «٢» قال الوَاحِدِيُّ: وكان ذلك سَبَبَ الصلح بينهم، انتهى.
وقوله سبحانه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: أهل مكة وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: منعوكم من العمرة، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج من المدينة إلى الحديبية في/ ذي القعدة سنة ست يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة وقيل بسبعين فأجمعت قريش لحربه وغوروا المياه التي تقرب من مكة فجاء صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل على بئر الحديبية وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش ثم بعث صلّى الله عليه وسلّم إليهم عثمان كما تقدم وبعثوا هم رجالاً آخرهم سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف صلّى الله عليه وسلّم ويعتمر من قابل فهذا صدهم إياه وهو مستوعب في السير، والْهَدْيَ معطوف على الضمير في «صدوكم» [أي] وصدوا الهدي، ومَعْكُوفاً حال، ومعناه: محبوساً، تقول عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحبس الهدي من قبل المشركين هو بصدهم، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونَظَرِهِمْ في أَمرهم لأجل أَنْ يبلغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ، وهو مَكَّةُ والبَيْتُ، وهذا هو حَبْسُ المسلمين، وذكر تعالى العِلَّةَ في أَنْ صَرَفَ المسلمين، ولم يمكنهم من دخول مَكَّةَ في تلك الوجهة، وهي أَنَّهُ كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خَفِيَ إيمانهم، فَلَوِ استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين قال قتادة «٣» : فدفع الله عن المشركين بأولئك
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥٦) برقم: (٣١٥٦٠)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٧٥)، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبزي.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٦٣) برقم: (٣١٥٧٣)، وذكره البغوي (٤/ ٢٠٤)، وابن عطية (٥/ ١٣٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٧٦)، وعزاه لابن جرير.

المؤمنين، والوَطْءُ هنا: الإهلاك بالسيف وغيره ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ «١» » قال أبو حيَّان «٢» : وَلَوْلا رِجالٌ جوابها محذوف لدلالة الكلام عليه، أي: ما كَفَّ أيديَكم عنهم، انتهى، والمَعَرَّةُ: السوء والمكروه اللاحق مأخوذ من العُرِّ والعُرَّة وهو الجَرَبُ الصَّعْبُ اللاَّزِمُ، واختلف/ في تعيين هذه المَعَرَّةِ، فقال الطبريُّ «٣» : وَحَكَاهُ الثعلبيُّ:
هي الكَفَّارة، وقال مُنْذِرٌ: المَعَرَّة: أنْ يعيبهم الكُفَّار، ويقولوا: قتلوا أهل دينهم، وقال بعضُ المفسِّرين: هي المَلاَمُ، والقولُ في ذلك، وتألمَ النفْسِ في باقي الزمان، وهذه أقوالٌ حِسَانٌ، وجواب «لولا» محذوفٌ، تقديره: لولا هؤلاءِ لدخلتم مكَّةَ، لكن شرَّفْنَا هؤلاءِ المؤمنِينَ بأنْ رَحِمْنَاهُمْ، ودفعنا بسببهم عن مَكَّةَ ليدخل اللَّه، أي: لِيُبَيِّنَ للناظر أنَّ اللَّه يدخُلَ من يشاء في رحمته أو، أي: لِيقعَ دخولهم في رحمة اللَّه ودفعه عنهم.
ت: وقال الثَّعْلَبِيُّ: قوله: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» يحتمل أنْ يريد بغير علم مِمَّنْ تكلَّم بهذا، والمَعَرَّةُ: المشقة «لِيُدْخِلَ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ» أي: في دين الإِسلام «مَنْ يَشَاءُ» : من أهل مكة قبل أن تدخلوها، انتهى.
وقوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا أي: لو ذهبوا عن مَكَّةَ تقول: زِلْتُ زيداً عن موضعه إزالة، أي: أذهبته، وليس هذا الفعل من «زَالَ يَزُولُ»، وقد قيل: هو منه، وقرأ أبو حيوة
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٩٧).
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٣٦٣).

وقتادة: «تَزَايَلُوا» بألف «١»، أي: ذهب هؤلاء عن هؤلاء، وقال النَّحَّاس: وقد قيل: إنَّ قوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ... الآية: يريدُ: مَنْ في أصلاب الكافرين مِمَّنْ سيُؤْمِنُ في غابر الدهر، وحكاه الثعلبيُّ والنَّقَّاش عن عليِّ بْنِ أبي طالبٍ- رضي اللَّه عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرفوعاً، والحَمِيَّةُ التي جعلوها هي حَمِيَّةُ أَهل مكة في الصَّدِّ قال الزُّهْرِيُّ: وهي حمية سُهَيْلٍ ومَنْ شَاهَدَ مِنْهُمْ عقدَ الصُّلْحِ، وجعلها سبحانه حَمِيَّةً جاهلية، لأَنَّها كانت منهم بغير حجّة، إذ لم يأت صلّى الله عليه وسلّم مُحِارِباً لهم، وإنما جاء معتمراً معظِّماً لبيت اللَّه، والسكينة: هي الطَّمْأَنِينَةُ إلى أَمْرِ رسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، والثقةُ بوعد اللَّه، والطاعةُ، وزوالُ/ الأَنَفَةِ التي لحقت عُمَرَ وغيره، «وكَلِمَةُ التَّقْوَى» : قال الجمهور: هي لا إله إلا اللَّه، ورُوِيَ ذلك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي مصحف ابن مسعود «٢» :«وَكَانُوا أَهْلَهَا [وَأَحَقَّ بِهَا» والمعنى: كانوا أهلها] على الإطلاق في علم اللَّه وسابق قضائه لهم، وروى أبو أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «إذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، واسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ، فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ فَلْيَتَحَيَّنِ المُنَادِيَ، فَإذَا كَبَّرَ كَبَّرَ، وَإذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ، وَإذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، وَإذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قَالَ: حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصادِقَةِ المُسْتَجَابِ لَهَا، دَعُوَةِ الحَقِّ وَكَلِمَةِ التقوى، أَحْيِنَا عَلَيْهَا، وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا، وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَاً، ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ حَاجَتَهُ» رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإِسناد «٣»، انتهى من «السّلاح».
فقد بيّن صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث معنى «كلمة التقوى» على نحو ما فسرَ به الجمهور، والصحيحِ أنه يعوض عن الحَيْعَلَةِ الحَوْقَلَةُ ففي «صحيح مسلم»، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَلاَةِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا باللَّهِ، ثم قال: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا باللَّهِ «٤» » الحديث، انتهى.
وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية فيروى أنّه لما انعقد
(٢) وهي في مختصر ابن خالويه ص: (١٤٣) هكذا: وكانوا أهلها أحق من غير واو. ونسبها إلى أصحاب عبد الله بن مسعود. وكما أثبتها «المصنف» عند ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٥/ ١٣٨).
(٣) أخرجه الحاكم (١/ ٥٤٦- ٥٤٧)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (١٠/ ٢١٣).
(٤) أخرجه مسلم (٢/ ٣٢١) كتاب «الصلاة» باب: استحباب القول مثل قول المؤذن، برقم: (١٢/ ٣٨٥).