
فقه الحياة أو الأحكام:
جازى اللَّه تعالى أهل بيعة الرضوان بجزاءين: مادي ومعنوي، أما المعنوي: فهو إسباغ الرضى الإلهي عليهم، وإنزال السكينة والطمأنينة على قلوبهم، بسبب ما عمله في نفوسهم من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة.
وأما الجزاء المادي: فهو فتح خيبر أو فتح مكة، وغنائم خيبر وأموالها، فقسمها عليهم، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة، أو غنائم فارس والروم.
مغانم وفتوحات ونعم كثيرة أخرى للمؤمنين
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤)
الإعراب:
وَلِتَكُونَ أي المعجلة، وهو عطف على مقدر، أي لتشكروه.
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أُخْرى: في موضع نصب بالعطف على مَغانِمَ وتقديره: وعدكم ملك مغانم كثيرة وملك أخرى، لأن المفعول الثاني وهو: مَغانِمَ لا يكون إلا

منصوبا، لأن الأعيان لا يقع الوعد عليها، إنما يقع على تملكها وحيازتها. ويصح أن تكون مبتدأ، ولَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها: صفة لها، وجاز الابتداء بها لكونها موصوفة، وقَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها:
خبر المبتدأ.
سُنَّةَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، أي سن اللَّه ذلك سنة.
البلاغة:
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ كناية عن الهزيمة، لأن المنهزم يدير ظهره للعدو عند الهرب.
المفردات اللغوية:
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً هي ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة إثر الفتوحات فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ أي غنائم خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أيدي قريش بالصلح، وأيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان، وأيدي اليهود عن المدينة إذ همّوا بعيالكم، بعد خروج الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم منها إلى الحديبية، بأن قذف في قلوبهم الرعب وَلِتَكُونَ أي الغنائم المعجلة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي أمارة للمؤمنين في نصرهم يعرفون بها صدق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في وعدهم فتح خيبر والمغانم وغير ذلك، وحراسة اللَّه لهم في غيبتهم ومشهدهم، وحفظ كيان المؤمنين الآتين بعدهم ما داموا على الاستقامة وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يوفقكم ويرشدكم إلى الثقة بفضل اللَّه والتوكل عليه في كل الأمور.
وَأُخْرى أي ومغانم أخرى هي مغانم فارس والروم لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها الآن، لما تتطلب من الإعداد الأقوى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها علم أنها ستكون لكم، وقد أعدها لكم وغنمكوها وأظهركم عليها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي ولم يزل متصفا بذلك، لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء.
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالحديبية لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لهربوا وانهزموا ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا حارسا حاميا يحرسهم وَلا نَصِيراً معينا ينصرهم. سُنَّةَ اللَّهِ حكم اللَّه وقانونه القديم فيمن مضى من الأمم غلبة أنبيائه، ونصر المؤمنين، وهزيمة الكافرين، كما قال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١] أي سنّ اللَّه ذلك سنة ثابتة دائمة وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغييرا.
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أيدي كفار مكة بِبَطْنِ مَكَّةَ في داخل مكة بالحديبية أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أظهركم عليهم وجعلكم متغلبين عليهم، فإن ثمانين منهم طافوا بعسكركم ليصيبوا منكم، فأخذوا وأتي بهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، فكان ذلك سبب الصلح وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أي ولم يزل مطلعا على جميع الأمور.

سبب النزول: نزول الآية (٢٤) :
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ..: أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه ثمانون رجلا في السلاح من جبل التنعيم «١»، يريدون غرّة «٢» رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذوا، فأعتقهم، فأنزل اللَّه: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ الآية.
وأخرج مسلم ونحوه من حديث سلمة بن الأكوع، وكذا أحمد والنسائي نحوه من حديث عبد اللَّه بن مغفل المزني، وابن إسحاق نحوه من حديث ابن عباس.
وحديث أحمد عن عبد اللَّه بن مغفل المزني رضي اللَّه عنهما هو: قال: «كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصل الشجرة التي قال اللَّه في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان علي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي رضي اللَّه عنه: اكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم، فأخذ سهيل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، قال: اكتب باسمك اللهم.
وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل مكة، فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللَّه.
فبينا نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابّا، عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذ اللَّه بأبصارهم، فقمنا إليهم
(٢) الغرّة: الغفلة، أي يريدون أن يصادفوا منه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن أصحابه غفلة من التأهب لهم.

فأخذناهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل جئتم في عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا؟ فقالوا: لا، فخلّى سبيلهم، فأنزل اللَّه تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ، بِبَطْنِ مَكَّةَ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ الآية.
المناسبة:
بعد أن وعد اللَّه تعالى أهل الحديبية بمغانم خيبر، أردفه بذكر نعم كثيرة أخرى:
أولها- أنّ ما أتاهم من الفتح والمغانم ليس هو كل الثواب، بل وعدهم مغانم كثيرة من غير تعيين، وكل ما غنموه كان منها، واللَّه كان عالما بها.
وثانيها- وعدهم بغنائم هوازن وفارس والروم وغيرها من البلاد التي ستفتح.
وثالثها- الوعد بنصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وتلك سنّة اللَّه القديمة.
ورابعها- امتنان اللَّه على عباده المؤمنين بكفّ أيدي المشركين عنهم في الحديبية.
التفسير والبيان:
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي وعدكم اللَّه أيها المؤمنون مغانم كثيرة من المشركين والكفار على ممرّ الدهر إلى يوم القيامة، ولكن عجّل لكم غنائم خيبر، وكفّ أيدي قريش عنكم يوم الحديبية بالصلح، وأيدي اليهود أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان عن قتالكم، وقذف في قلوبهم الرعب، فلم ينلكم سوء مما أضمره أعداؤكم لكم من المحاربة والقتال.

كل ذلك لتشكروه، ولتكون تلك النعم علامة للمؤمنين يعلمون بها صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جميع ما يعدهم به، وأن اللَّه حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء، مع قلة العدد، وليزيدكم بتلك الآية أو العلامة هدى، أو يثبّتكم على الهداية إلى طريق الحقّ، والانقياد لأمر اللَّه تعالى وطاعة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
- وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي وعدكم اللَّه غنائم أخرى وفتوحات أخرى غير صلح الحديبية وفتح خيبر، لم تكونوا تقدرون عليها في حالتكم الراهنة، قد أحاط اللَّه بها علما أنها ستصير أو ستكون لكم، وتفتحونها وتأخذونها، مثل غنائم هوازن في غزوة حنين، وفتوحات فارس والروم، وكان اللَّه وما يزال على كل شيء قديرا مقتدرا، لا يعجزه شيء.
- وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ، ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي لو بادركم بالقتال كفار قريش بالحديبية، لنصر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وعباده المؤمنين عليهم، ولا نهزم جيش الكفر فارّا هاربا، ثم لا يجدون حارسا وحاميا يحرسهم ويواليهم على قتالكم، ولا ناصرا معينا ينصرهم عليكم.
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي تلك سنّة اللَّه القديمة وعادته في خلقه بنصر جيش الإيمان على جيش الكفر، ورفع الحق ووضع الباطل، وغلبة أوليائه على أعدائه، بالرغم من عدم تكافؤ القوى، مثل نصر اللَّه يوم بدر أولياءه، على أعدائه من المشركين، وتلك السّنة مستمرة ثابتة، لا تغيير لها.
- وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أي واللَّه سبحانه وتعالى هو الذي

كفّ أيدي المشركين عن المسلمين، وأيدي المسلمين عن المشركين، لما جاؤوا يصدّون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه عن البيت الحرام عام الحديبية، في داخل مكة وحدودها، فإن ثمانين رجلا من أهل مكة- كما تقدّم في سبب النزول- هبطوا على النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من قبل جبل التنعيم، متسلحين، يريدون غرّة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذهم المسلمون، ثم تركوهم. وهذا امتنان من اللَّه تعالى على عباده المؤمنين بكفّ المشركين عنهم، وكفّ المسلمين عن الكفار.
وكان اللَّه وما يزال بصيرا بأعمال عباده المؤمنين والمشركين، لا يخفى عليه من ذلك شيء. وعلى هذا، ليس المراد من قوله: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فتح مكة، فالصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، وأن مكة فتحت عنوة، وإنما المراد: ما بعد الأسر لم يحدث قتل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات البيّنات إلى ما يأتي:
١- وعد اللَّه تعالى المؤمنين الصادقين مغانم الأعداء إلى يوم القيامة، ومغانم خيبر المعجلة جزء منها.
٢- إتماما للمنّة والفضل الإلهي، منع اللَّه تعالى عباده المؤمنين وحماهم من أذى وحرب أهل مكة، وكفّهم عنهم بالصلح، كما كفّ أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الحديبية وخيبر، وأيدي اليهود وحلفائهم من أسد وغطفان عن قتال المسلمين في خيبر. وكان قد جاء عيينة بن حصن وعوف بن مالك النّضري ومن كان معهما لينصروا أهل خيبر، والمسلمون محاصرون لهم، فألقى اللَّه في قلوبهم الرعب، وكفّهم عن المسلمين، وزاد اللَّه هؤلاء هدى، وثبّتهم على الهداية.

٣- وعد اللَّه عباده المؤمنين مغانم وفتوحات أخرى إلى يوم القيامة، منها غنائم هوازن، وغنائم فارس والروم، وذلك قبل حدوثها، ولم يكونوا يرجونها، حتى أخبرهم اللَّه بها. وهو إخبار بالمغيبات دالّ على إعجاز القرآن، وأنه من عند اللَّه تعالى، وأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم صادق في نبوته.
٤- ومن أفضاله تعالى على المؤمنين أنه كفّ عنهم شرّ أعدائهم، فإنه سواء قاتلت غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر، أم لم يقاتلوا، لا ينصرون، والغلبة واقعة للمسلمين، وذلك أمر إلهي محكوم به مختوم، ولن يجد الكفار مواليا ينفعهم باللطف، ولا ناصرا يدفع بالعنف، وليس للذين كفروا شيء من ذلك، وطريقة اللَّه وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه، وهي سنّة ثابتة مستمرة لا تقبل التغير.
٥- وتأكيدا لنصر المؤمنين وطّد اللَّه تعالى دعائم الصلح والسلم قبل اللقاء وبعده، ومنع حدوث القتال بين المسلمين والكفار، حتى ولو قاتل الكفار، فإنهم سينهزمون ويولّون الدّبر، وحتى بعد ظفر المسلمين بهم، فإنه تعالى كفّ أيدي المؤمنين عنهم. وهذا هو المراد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي من بعد ما أخذتموهم أسارى، وتمكنتم منهم لم يقع القتل، فإنه متى ظفر الإنسان بعدوه يبعد انكفافه عنه، مع أن اللَّه كفّ اليدين.
وكفّ أيدي المؤمنين عن الكفار: هو إطلاقهم من الأسر، وسلامتهم من القتل.