الإشارة: أصحاب هذه الأعذار إن صحبوا الرجال، وحطُّوا رؤوسهم لهم، وبذلوا نفوسهم وفلوسهم، سقط عنهم السفر إلى صحبة أشياخهم، ووصلت الواردات والأمداد إليهم في أماكنهم، ونالوا مراتب الرجال، حيث حبسهم العذر من العمى والعرج والمرض المزمن، والله يرزق العبدَ على قدر نيته وهمته.
ثم ذكر شأن بيعة الرّضوان، فقال:
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٨ الى ٢١]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١)
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ... الآية، وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان، و «إذ» منصوب ب «رَضِيَ»، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة، و (تحت الشجرة) : متعلق به، أو: بمحذوف، حال من مفعوله، أي: رَضِيَ عنهم وقت مبايعتهم لك تَحْتَ الشَّجَرَةِ أو: حاصلاً تحتها.
رُوي: أنه صلّى الله عليه وسلم، لمّا نزل الحديبية، بعث خِراش بن أمية الخزاعي، رسولاً إلى أهل مكة، فهمّوا به، وأنزلوه عن بعيره، فمنعته الأحابيش، فلما رجع دعا بعُمر ليبعثه، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحدٌ يمنعني، ولكن عثمان أعزّ بمكة مني، فبعث عثمان إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه صلّى الله عليه وسلم جاء زائراً إلى البيت، مُعظِّماً لحُرمته، ولم يُرد حرباً، فوقروه، وقالوا: إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال: ما كنت لأطوف قبلَ أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتبس عندهم، فأُرجِفَ بأنهم قتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا الناسَ إلى البيعة، فبايعوه تحت الشجرة- وكانت سمرة «١» وقيل: سِدرة- على أن يُقاتلوا قريشاً، ولا يفرُّوا، «٢» وأول مَن بايع «أبو سنان الأسدي»، واسمه: وهب بن عبد الله بن محصن، ابن
(٢) أخرجه البخاري فى (الجهاد والسبر باب البيعة فى الحرب أن لا يفروا ح ٢٩٥٨) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وأخرجه مسلم فى (الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال ح ١٨٥٦) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
اخي عكاشة بن مِحصن. وقيل: بايعوه على الموت عنده «١»، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» «٢» وقال أيضاً: «لا يدخل النارَ أحد ممن بايع تحت الشجرة» «٣». وكانوا ألفاً وخمسمائة وخمسةً وعشرين، وقيل: ألفاً وأربعمائة. والحديبية بتخفيف الياء، قاله في المصباح، وهي على عشرة أميال من مكة.
فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الإخلاص، وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه. وقال القشيري: عِلِمَ ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكيك. وذلك أنه صلّى الله عليه وسلم رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشّر أصحابه، فلما صُدُّوا خامر قلوبَهم شكٌّ «٤»، فَأَنْزَلَ الله السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ أي: اليقين والطمأنينة، فذهب عنهم. ثم قال:
وفي الآية دليلٌ على أنه قد يخطر ببال الإنسان خواطر مشكِّكة، وفي الرَّيب مُوقعة، ثم لا عبرة، فإن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً ألزم التوحيد قلبَه، وقارن التحقيق سِرَّه، فلا يضرُّه كيدُ الشيطان. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا... الآية «٥».
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ أي: الطمأنينة والأمن، وسكون النفس، بالربط على قلوبهم، وَأَثابَهُمْ أي:
جازاهم فَتْحاً قَرِيباً وهو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما تقدّم. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وهي مغانم خيبر، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها بينهم، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً منيعاً فلا يغالب، حَكِيماً فيما يحكم به فلا يعارض.
وقد بيّن العلماء إنه لا تنافي بين من قال: إنهم بايعوا النبي ﷺ يومئذ على الموت، وبين من قال: إنهم بايعوه على عدم الفرار.
قال الحافظ ابن حجر فى الفتح (٧/ ٥١٥: فحاصل الجمع أنّ من أطلق أن البيعة كانت على الموت أراد لازمها، لأنه إذا بايع أنه لا يفر لزم من ذلك أن يثبت، والذي يثبت إما أن يغلب وإما أن يؤسر، والذي يؤسر إما أن ينجو وإما أن يموت، ولمّا كان الموت لا يؤمن فى مثل ذلك أطلقه الرّاوى. وحاصله: أن أحدهما حكى صورة البيعة، والآخر حكى ما تئول إليه، وجمع الترمذي بأن بعضا بايع على الموت، وبعضا بايع على أن لا يفر. هـ.
(٢) أخرجه البخاري فى (المغازي، باب غزوة الحديبية، ح ٤١٥٤) ومسلم فى (الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، رقم ١٨٥٦، ح ٧١) من حديث جابر عبد الله رضي الله عنه.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٣/ ٣٥٠). وأبو داود فى (السنة، باب فى الخلفاء ح ٤٦٥٣) والترمذي فى (المناقب، باب ما جاء فى فضل من بايع تحت الشجرة ح ٣٨٦٠) وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرج مسلم فى (فضائل الصحابة باب من فضائل أصحاب الشجرة ح ٢٤٩٦) من حديث جابر، عن أم مبشّر، أنها سمعت النبي ﷺ يقول عند حفصة: «لا يدخل النّار- إن شآء الله- من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوه تحتها».
(٤) فى القشيري: شىء.
(٥) الآية ٢٠١ من سورة الأعراف.
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها هو ما فتح على المؤمنين، وغنموه مع النبي ﷺ وبعده إلى يوم القيامة. والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ المغانم، يعني مغانم خيبر، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي: أيدي أهل خيبر وحُلفاءهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا، وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح، وَلِتَكُونَ هذه الكفَّة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وعبرةً يعرفون أنهم من الله بمكان، وأنه ضامن لنصرتهم والفتح عليهم، أو: لتكون آية يعرفون بها صدق الرّسول صلّى الله عليه وسلم من وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية بما ذكر من المغانم، ودخول مكة، ودخول المسجد الحرام آمنين. واللام إما متعلقة بمحذوف مؤخر، أي: وليكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف، وإما يتعلق بعلة أخرى محذوفة من أحد الفعلين، أي: فعجَّل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم لتغنموها ولتكون... الخ، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: يزيدكم بصيرةً ويقيناً وثقةً بوعد الله حتى تثقوا في أموركم كلها بوعد الله تعالى.
قال الثعلبي، ولمّا فتح النبي ﷺ حصونَ خيبر سمع أهل فدك ما صنع- عليه السلام- بأهل خيبر، فأرسلوا له يسألونه أن يُسيرَهم ويحقن دماءهم، ويخلُّوا له الأموال، ففعل، ثم صالح أهلَ خيبر، على أن يعملوا في أموالهم على النصف، على أنه إن شاء أجلاهم متى شاء «١»، ففعلوا، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة له صلى الله عليه وسلم، إذ لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، ولما اطمأن صلّى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب الحارث اليهودية شاة مصليَّة مسمومة، أكثرت في ذراعها السم، فأخذ صلّى الله عليه وسلم الذراع، فأ كل منه، ثم كلّمه، فأمسك، وأ كل معه بشر بن البراء بن معرور، فمات من ساعته، وسلم صلّى الله عليه وسَلِمَ حتى قام عليه بعد سنتين، فمات به، فجُمع له بين الشهادة والنبوة «٢».
ثم قال تعالى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أي: وعجّل لكم مغانم أخرى، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين. ووصفها بعدم القدرة عليها لِمَا كان فيها من الجَوْلة. قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها قَدَرَ عليها واستولى، وأظهركم عليها، وهي صفة أخرى ل «أخرى» مفيدة لسهولة بأسها بالنسبة إلى قدرته تعالى، بعد بيان صعوبة مَنَالها بالنظر إلى حِذرهم. ويجوز في «أُخرى» النصب بفعل مضمر، يُفسره قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها، أي: وقضى الله أخرى، ولا ريب في أنَّ الإخبار بقضاء إياها بعد اندراجها في جملة الغنائم الموعودة بقوله: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً فيه مزيد فائدة، وإنما الفائدة في بيان تعجيلها وتأخير هذه.
(٢) انظر سيرة ابن هشام (٢/ ٣٣٧- ٣٣٨) وتفسير البغوي (٧/ ٣١١). وحديث أكلة خيبر أخرجه البخاري فى (الهبة، باب قبول الهدية من المشركين، ح ٢٦١٧) ومسلم فى (السّلام، باب السم، ح ٢١٩٠) عن أنس رضي الله عنه.
وقال ابن عباس والحسن ومقاتل: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها هي فارس والروم. وقال مجاهد: ما فتحوا حتى اليوم «١». هـ. قلت: بل إلى يوم القيامة وهذا أظهر الأقوال. أي: لم تقدروا على أخذها الآن وستأخذونها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً لأن قدرته تعالى عامة التعلُّق، لا تختص بشيء دون شيء.
قال ابن عرفة: مذهبنا أن المستحيل لا يصدق عليه شيء، فيبقى النظر: هل يطلق على الواجب شيء، لقوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ «٢» أم لا يطلق عليه شيء؟ فإن قلنا: يصلح الإطلاق وجب التخصيص في الآية، فيكون عامّاً مخصوصاً، وإن قلنا بعدم صحته، فيبقى النظر: هل المراد بالقدرة الإحداث أو الصلاحية، فإن أريد الإحداث فهي مخصوصة، وإن أريد الصلاحية فهو عام غير مخصوص. هـ.
الأشارة: مشايخ التربية خلفاء الرّسول صلّى الله عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرسول، فيقال على طريق الإشارة: لقد رَضِي اللهُ عن المؤمنين المتوجهين، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة، تحت ظل شجرة همتك، فعَلِمَ ما في قلوبهم من الصدق، فأنزل السكينة عليهم، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرياضة، وأثابهم فتحاً قريباً، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ومغانم كثيرة فتوحات ومكاشفات، وأسرار، وترقيات كثيرة، إلى ما لا نهاية له، يأخذونها. ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح، من الرجوع إلى البقاء وبقاء البقاء، والتوسُّع في المقامات، والترقِّي في معارج المكاشفات، فعَجَّل لكم هذه، هو مقام الفناء، وكفَّ أيدي القواطع عنكم، لتتوجهوا إلى مولاكم، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير، يهتدون بهديكم، ويهديكم صراطاً مستقيماً:
طريق الوصول إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، وأخرى لم تقدروا عليها في الدنيا، ادخرها لكم يوم القيامة، هو المُقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال الورتجبي: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أي: رَضِيَ عنهم في الأزل، وسابق علم القدم، ويبقى رضاه إلى الأبد لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية، لا تتغير بتغيُّر الحدثان، ولا بالوقت والزمان، ولا بالطاعة والعصيان، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية، ولا بالشهوات، لأن أهل الرضا محروسون برعايته، لا تجري عليهم نعوت أهل البُعد، وصاروا متصفين بوصف رضاه، فرضوا عنه كما رضي عنهم، قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ «٣»، وهذا بعد قذف نور الأنس في قلوبهم بقوله: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ فسكنت قلوبهم إليه، واطمأنت به لتنزّل اليقين. هـ.
(٢) من الآية ١٩ من سورة الأنعام.
(٣) من الآية ١١٩ من سورة المائدة.