إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي على أمتك لقوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ١٤٣] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة شاهدا على أمتك وشاهدا على الأنبياء عليهم السلام أنهم قد بلغوا وَمُبَشِّراً بالثواب على الطاعة وَنَذِيراً بالعذاب على المعصية لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته كقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١] وهو من باب التغليب غلب فيه المخاطب على الغيب فيفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام مخاطب بالإيمان برسالته كالأمة وهو كذلك، وقال الواحدي: الخطاب في أَرْسَلْناكَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وفي لِتُؤْمِنُوا لأمته فعلى هذا إن كان اللام للتعليل يكون المعلل محذوفا أي لتؤمنوا بالله وكيت وكيت فعل ذلك الإرسال أو للأمر على طريقة فبذلك فلتفرحوا [يونس: ٥٨] على قراءة التاء الفوقانية فقيل هو على معنى قل لهم: لتؤمنوا إلخ، وقيل: هو للأمة على أن خطابه صلّى الله عليه وسلّم منزل منزلة خطابهم فهو عينه ادعاء، واللام متعلقة بأرسلنا، ولا يعترض عليه بما قرره الرضي وغيره من أنه يمتنع أن يخاطب في كلام واحد اثنان من غير عطف أو تثنية أو جمع لأنه بعد التنزيل لا تعدد، وجوز أن يكون ذلك لأنهم حينئذ غير مخاطبين في الحقيقة فخطابهم في حكم الغيبة، وقيل:
الامتناع المذكور مشروط بأن يكون كل من المخاطبين مستقلا أما إذا كان أحدهما داخلا في خطاب الآخر برسالته فلا امتناع كما يعلم من تتبع كلامهم، وحينئذ يجوز أن يراد خطاب الأمة أيضا من غير تغليب، والكلام في ذلك طويل وما ذكر سابقا سالم عن القال والقيل
وَتُعَزِّرُوهُ أي تنصروه كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعا
وأخرجه جماعة
عن قتادة، والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصرة دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وَتُوَقِّرُوهُ أي تعظموه كما قال قتادة وغيره، والضمير له تعالى أيضا، وقيل: كلا الضميرين للرسول صلّى الله عليه وسلّم وروي عن ابن عباس، وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في تُعَزِّرُوهُ للرسول عليه الصلاة والسلام لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ لله سبحانه وتعالى، ولا يخفى أن الأولى كون الضميرين فيما تقدم لله تعالى أيضا لئلا يلزم فك الضمائر من غير ضرورة أي وتنزهوا الله تعالى أو تصلوا له سبحانه من السبحة بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشيا، والمراد ظاهرهما أو جميع النهار ويكنى عن جميع الشيء بطرفيه كما يقال شرقا وغربا لجميع الدنيا، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر، وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وابن كثير وأبو عمرو الأفعال الأربعة. أعني لتؤمنوا وما بعده. بياء الغيبة، وعن ابن مسعود. وابن جبير كذلك إلا أنهما قرءا «ويسبحوا الله» بالاسم الجليل مكان الضمير، وقرأ الجحدري «تعزروه» بفتح التاء الفوقية وضم الزاي مخففا، وفي رواية عنه
فتح التاء وكسر الزاي مخففا وروي هذا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه
، وقرىء بضم التاء وكسر الزاي مخففا، وقرأ ابن عباس ومحمد بن اليماني «تعزّروه» بزاءين من العزة أي تجعلوه عزيزا وذلك بالنسبة إليه سبحانه بجعل دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كذلك. وقرىء «وتوقروه» من أوقره بمعنى وقره إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يوم الحديبية على الموت في نصرتك كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره أو على أن لا يفروا من قريش كما روي عن ابن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهم، وسيأتي الكلام في تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى، والمبايعة وقعت قبل نزول الآية فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية، وهي مفاعلة من البيع يقال: بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذلك الطاعة له بما رضخ له، وكثيرا ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم وإن لم يكن رضخ، وما وقع للمؤمنين قيل يشير إلى ما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التوبة: ١١١] الآية إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأن المقصود من بيعة الرسول عليه الصلاة والسلام وإطاعته إطاعة الله تعالى وامتثال أوامره سبحانه لقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: ٨٠] فمبايعة الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه مشاكلة أو هو صرف مجاز، وقرىء «إنما يبايعون لله» أي لأجل الله تعالى ولوجهه، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونك لله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ استئناف مؤكد لما قبله لأنه عبارة عن المبايعة. قال في الكشاف لما قال سبحانه: إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أكده على طريقة التخييل فقال تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وأنه سبحانه منزه عن الجوارح وصفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما. وفي المفتاح أما حسن الاستعارة التخييلية فبحسب حسن الاستعارة بالكناية متى كانت تابعة لها كما في قولك: فلان بين أنياب المنية ومخالبها تم إذا انضم إليها المشاكلة كما في يَدُ اللَّهِ إلخ كانت أحسن وأحسن، يعني أن في اسم الله تعالى استعارة بالكناية تشبيها له سبحانه وتعالى بالمبايع واليد استعارة تخييلية مع أن فيها أيضا مشاكلة لذكرها مع أيدي الناس، وامتناع الاستعارة في اسم الله تعالى إنما هو في الاستعارة التصريحية دون المكنية لأنه لا يلزم إطلاق اسمه تعالى على غيره سبحانه، وروى الواحدي عن ابن كيسان اليد القوة أي قوة الله تعالى ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم أي ثق بنصرة الله تعالى لك لا بنصرتهم وإن بايعوك.
وقال الزجاج: المعنى يد الله في الوفاء فوق أيديهم أو في الثواب فوق أيديهم في الطاعة أو يد الله سبحانه في المنة عليهم في الهداية فوق أيديهم في الطاعة، وقيل: المعنى نعمة الله تعالى عليهم بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم وهي مبايعتهم إياك وأعظم منها، وفيه شيء من قوله تعالى: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: ١٧] وكل ذلك تأويلات ارتكبها الخلف وأحسنها ما ذكر أولا، والسلف يمرون الآية كما جاءت
مع تنزيه الله عز وجل عن الجوارح وصفات الأجسام وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات ويقولون: إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات وأنى ذلك وهيهات هيهات، وجوز أن تكون الجملة خبرا بعد خبر لإن، وكذا جوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل في يُبايِعُونَكَ وفي جواز ذلك مع كونها اسمية غير مقترنة بالواو كلام فَمَنْ نَكَثَ نقض العهد فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، وروى الزمخشري عن جابر بن عبد الله أنه ما نكث أحد البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقا، والذي نقله الطيبي عن مسلم يدل على أن الرجل لم يبايع لا أنه بايع ونكث قال: سئل جابر كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشر مائة فبايعناه وعمر رضي الله تعالى عنه آخذ بيده صلوات الله تعالى وسلامه عليه تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم، ولعل هذا هو الأوفق لظاهر قوله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ [الفتح: ١٨].
وقرأ زيد بن علي «ينكث» بكسر الكاف وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً هو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويقال: وفى بالعهد وأوفى به إذا تممه وأوفى لغة تهامة، ومنه قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: ١]. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ [البقرة: ١٧٧] وقرىء «بما عهد» ثلاثيا.
وقرأ الجمهور «عليه» بكسر الهاء كما هو الشائع وضمها حفص هنا، قيل: وجه الضم أنها هاء هو وهي مضمومة فاستصحب ذلك كما في له وضربه، ووجه الكسر رعاية الياء وكذا في إليه وفيه وكذا فيما إذا كان قبلها كسرة نحو به ومررت بغلامه لثقل الانتقال من الكسر إلى الضم، وحسن الضم في الآية التوصل به إلى تفخيم لفظ الجلالة الملائم لتفخيم أمر العهد المشعر به الكلام، وأيضا إبقاء ما كان على ما كان ملائم للوفاء بالعهد وإبقائه وعدم نقضه، وقد سألت كثيرا من الأجلة وأنا قريب عهد بفتح فمي للتكلم عن وجه هذا الضم هنا فلم أجب بما يسكن إليه قلبي ثم ظفرت بما سمعت والله تعالى الهادي إلى ما هو خير منه، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وروح وزيد بن علي «فسنؤتيه» بالنون.
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال مجاهد وغيره ودخل كلام بعضهم في بعض المخلفون من الاعراب هم جهينة ومزينة وغفار وأشجع والديل وأسلم استنفرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم هو صلّى الله عليه وسلّم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا ورأى أولئك الأعراب أنه عليه الصلاة والسلام يستقبل عددا عظيما من قريش. وثقيف.
وكنانة. والقبائل المجاورين مكة وهم الأحابيش ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم فقعدوا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وتخلفوا وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم وقالوا: لن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم الله تعالى في هذه الآية وأعلم رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقولهم اعتذارهم قبل أن يصل إليهم فكان كذلك، والْمُخَلَّفُونَ جمع مخلف، قال الطبرسي: هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف وضده المقدم، والْأَعْرابِ في المشهور سكان البادية من العرب لا واحد له أي سيقول لك المتروكون الغير الخارجين معك معتذرين إليك شَغَلَتْنا عن الذهاب معك أَمْوالُنا وَأَهْلُونا إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ ذلك ويحميه عن الضياع، ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي لأن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال.
وقرأ إبراهيم بن نوح بن بازان «شغّلتنا» بتشديد الغين المعجمة للتكثير فَاسْتَغْفِرْ لَنا الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا
عنك حيث لم يكن عن تكاسل في طاعتك بل لذلك الداعي يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في الجنان، وهو كناية عن كذبهم، فالجملة استئناف لتكذيبهم وكونها بدلا من سَيَقُولُ غير ظاهر، والكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم بأنه لضرورة داعية له وهو القيام بمصالحهم التي لا بد منها وعدم من يقوم بها لو ذهبوا معه عليه الصلاة والسلام، وكذا راجع لما تضمنه (استغفر) الإنشاء من اعترافهم بأنهم مذنبون وأن دعاءه صلّى الله عليه وسلّم لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم، أو تسمية ذلك كذبا ليس لعدم مطابقة نسبة الاعتقاد على ما ذهب إليه النظام بل لعدم مطابقته الواقع بحسب الاعتقاد وفرق بين الأمرين قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم بذلك عند اعتذارهم بتلك الأباطيل، والملك إمساك بقوة لأنه بمعنى الضبط وهو حفظ عن حزم، ومنه لا أملك رأس البعير وملكت العجين إذا شددت عجنته، وملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما، وإذا قلت: لا أملك كان نفيا للاستطاعة والطاقة إمساكا ومنعا، فأصل المعنى هنا فمن يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد بكم إلخ، واللام من لَكُمْ إما للبيان أو من صلة الفعل لأن هذه الاستطاعة مختصة بهم ولأجلهم، ومِنَ اللَّهِ حال من النكرة. أعني شيئا. مقدمة، وتفسير الملك بالمنع بيان لحاصل المعنى لأنه إذا لم يستطع أحد الإمساك والدفع فلا يمكنه المنع وليس ذلك لجعله مجازا عنه أو مضمنا إياه واللام زائدة كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل: ٧٢] ومِنَ متعلقة بيملك كما قيل، والمراد بالضر والنفع ما يضر وما ينفع فهما مصدران مراد بهما الحاصل بالمصدر أو مؤولان بالوصف.
وقرأ حمزة والكسائي «ضرّا» بضم الضاد وهو لغة فيه، وحاصل معنى الآية قل لهم إذ لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى فليس الشغل بالأهل والمال عذرا فلا ذاك يدفع الضر ان أراده عز وجل ولا مغافصة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعا، وهذا كلام جامع في الجواب فيه تعريض بغيرهم من المبطلين وبجلالة محل المحقين ثم ترقى سبحانه منه إلى ما يتضمن تهديدا بقوله تعالى: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أي بكل ما تعملونه خَبِيراً فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه ويجازيكم على ذلك، ثم ختم جل وعلا بمكنون ضمائرهم ومخزون ما أعد لهم عنده تعالى بقوله سبحانه: بَلْ ظَنَنْتُمْ إلى قوله تعالى: بُوراً وفي الانتصاف ان في قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ إلخ لفا ونشرا والأصل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو من يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا لأن من يملك يستعمل في الضر كقوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ [المائدة: ١٦] وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة: ٤١] فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ [الأحقاف: ٨]. ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث: «إني لا أملك لكم شيئا»
يخاطب عشيرته وأمثاله كثير، وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه وليس كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد عليه لا له فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه كذلك لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدور من خير وشر فلما تقاربا أدرجا في عبارة واحدة، وخص عبارة دفع الضر لأنه هو المتوقع لهؤلاء إذ الآية في سياق التهديد والوعيد الشديد وهي نظير قوله تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب: ١٧] فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة، فهاتان الآيتان توأمتان في التقرير المذكور انتهى، والوجه ما ذكرناه أولا في الآية، وفي تسمية مثل هذا لفا ونشرا نظر، ثم إن الظاهر عموم الضر والنفع، وقال شيخ الإسلام أبو السعود: المراد بالضر ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما وبالنفع ما ينفع من حفظ المال والأهل وتعميمهما يرده قوله تعالى بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فإنه إضراب عما قالوه وبيان
لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه انتهى، وهو كلام أوهى من بيت العنكبوت لأن في التعميم إفادة لما ذكر وزيادة تفيد قوة وبلاغة، والظاهر أن كلا من الإضرابات الثلاثة مقصود، وقال شيخ الإسلام: إن قوله تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ إلخ بدل من كانَ اللَّهُ إلخ مفسر لما فيه من الإبهام. وفي البحر أنه بيان للعلة في تخلفهم أي بل ظننتم أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ أي لن يرجع من ذلك السفر الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أي عشائرهم وذوي قرباهم أَبَداً بأن يستأصلهم المشركون بالمرة فحسبتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما يصيبهم فلأجل ذلك تحلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة. والأهلون جمع أهل وجمعه جمع السلامة على خلاف القياس لأنه ليس بعلم ولا صفة من صفات من يعقل ويجمع على اهلات بملاحظة تاء التأنيث في مفرده تقديرا فيجمع كتمرة وتمرات ونحوه أرض وأرضات، وقد جاء على ما في الكشاف أهلة بالتاء ويجوز تحريك عينه أيضا فيقال: اهلات بفتح الهاء، وكذا يجمع على أهال كليال، وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع وقيل: وهو إطلاق منه في الجمع الوارد على خلاف القياس وإلا فاسم الجمع شرطه عند النحاة أن يكون على وزن المفردات سواء كان له مفرد أم لا. وقرأ عبد الله «إلى أهلهم» بغير ياء، والآية ظاهرة في أن لَنْ ليست للتأبيد ومن زعم إفادتها إياه جعل أَبَداً للتأكيد وَزُيِّنَ أي حسن ذلِكَ أي الظن المفهوم من ظننتم فِي قُلُوبِكُمْ فلم تسعوا في إزالته فتمكن فيكم فاشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بالرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وقيل: الإشارة إلى المظنون وهو عدم انقلاب الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إلى أهليهم أبدا أي حسن ذلك في قلوبكم فاحببتموه والمراد من ذلك تقريعهم ببغضهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين والمناسب للسياق ما تقدم. وقرىء «زيّن» بالبناء للفاعل بإسناده إلى الله تعالى أو إلى الشيطان وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وهو ظنهم السابق فتعريفه للعهد الذكرى وأعيد لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء أو هو عام فيشمل ذلك الظن وسائر ظنونهم الفاسدة التي من جملتها الظن بعدم رسالته عليه الصلاة والسلام فإن الجازم بصحتها لا يحوم فكره حول ما ذكر من الاستئصال فذكر ذلك للتعميم بعد التخصيص.
وَكُنْتُمْ في علم الله تعالى الأزلي قَوْماً بُوراً أي هالكين لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم مستوجبين سخطه تعالى وعقابه جل شأنه، وقيل: أي فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم، والظاهر على ما في البحر أن بورا في الأصل مصدر كالهلك ولذا وصف به المفرد المذكر في قول ابن الزبعرى:
يا رسول الله المليك إن لساني | راتق ما فتقت إذ أنا بور |
وتنكير سعير للتهويل لما فيه من الإشارة إلى أنها لا يمكن معرفتها واكتناه كنهها، وقيل: لأنها نار مخصوصة فالتنكير للتنويع ومَنْ يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون شرطية والعائد من الخبر أو من جواب الشرط هو الظاهر القائم مقام المضمر وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو عز وجل المتصرف في الكل كما يشاء يَغْفِرُ لِمَنْ صفحة رقم 254
يَشاءُ
أن يغفر له وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه من غير دخل لأحد في شيء من غفرانه تعالى وتعذيبه جل وعلا وجودا وعدما وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً مبالغا في المغفرة لمن يشاء ولا يشاء سبحانه إلا لمن تقتضي الحكمة المغفرة له ممن يؤمن به سبحانه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وأما من عداه من الكافرين المجاهرين والمنافقين فهم بمعزل من ذلك قطعا وفي تقديم المغفرة والتذييل بكونه تعالى غفورا بصيغة المبالغة وضم رحيما إليه الدال على المبالغة أيضا دون التذيل بما يفيد كونه سبحانه معذبا مما يدل على سبق الرحمة ما فيه.
وفي الحديث كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق رحمتي سبقت غضبي
وهذا السبق على ما أشار إليه في أنوار التنزيل ذاتي وذلك لأن الغفران والرحمة بحسب الذات والتعذيب بالعرض وتبعيته للقضاء والعصيان المقتضي لذلك وقد صرح غير واحد بأن الخير هو المقضي بالذات والشر بالعرض إذ لا يوجد شر جزئي الا وهو متضمن لخير كلي، وفصل ذلك في شرح الهياكل، وقال بعض الأجلة: المراد بالسبق في الحديث كثرة الرحمة وشمولها وكذا المراد بالغلبة الواقعة في بعض الروايات، وذلك نظير ما يقال: غلب على فلان الكرم ومن جعل الرحمة والغضب من صفات الأفعال لم يشكل عليه أمر السبق ولم يحتج إلى جعلن ذاتيا كما لا يخفى والآية على ما قال أبو حيان لترجية أولئك المنافقين بعض الترجية إذا آمنوا حقيقة، وقيل: لحسم أطماعهم الفارغة في استغفاره عليه الصلاة والسلام لهم، وفسر الزمخشري مَنْ يَشاءُ الأول بالتائب والثاني بالمصرّ ثم قال: يكفر سبحانه السيئات باجتناب الكبائر ويغفر الكبائر بالتوبة وهو اعتزال منه مخالف لظاهر الآية، وقال الطيبي يمكن أن يقال: ان قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ إلخ موقعه موقع التذييل لقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية على أن يقدر له ما يقابله من قوله ومن آمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للمؤمنين الجنان مثلا فلا يقيد شيء مما قيده ليؤذن بالتصرف التام والمشيئة النافذة والغفران الكامل والرحمة الشاملة فتأمل ولا تغفل سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون من الاعراب فاللام للعهد وقوله تعالى: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ظرف لما قبله لا شرط لما بعده والمراد بالمغانم مغانم خيبر كما عليه عامة المفسرين ولم نقف على خلاف في ذلك وأيد بأن السين تدل على القرب وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية كما علمت فإرادتها كالمتعينة، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئا وخص سبحانه ذلك بهم أي سيقولون عند إطلاقكم إلى مغانم خيبر لتأخذوها حسبما وعدكم الله تعالى إياها وخصكم بها طمعا في عرض الدنيا لما أنهم يرون ضعف العدو ويتحققون النصرة ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ إلى خيبر ونشهد معكم قتال أهلها يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ بأن يشاركوا في الغنائم التي خصها سبحانه بأهل الحديبية وحاصله يريدون الشركة التي لا تحصل لهم دون نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى، والجملة استئناف لبيان مرادهم بذلك القول، وقيل: يجوز أن تكون حالا من المخلفين وهو خلاف الظاهر ولا ينافي خبر التخصيص إعطاؤه عليه الصلاة والسلام بعض مهاجري الحبشة القادمين مع جعفر وبعض الدوسيين والأشعريين من ذلك وهم أصحاب السفينة كما في البخاري فإنه كان استنزالا للمسلمين عن بعض حقوقهم لهم أو أن بعضها فتح صلحا وما أعطاه عليه الصلاة والسلام فهو بعض مما صالح عليه وكل هذا مذكور في السير لكن الذي صححه المحدثون أنه لا صلح فيها.
وقال الكرماني: إنما أعطاهم صلّى الله عليه وسلّم برضا أصحاب الوقعة أو أعطاهم من الخمس الذي هو حقه عليه الصلاة والسلام، وميل البخاري إلى الثاني وحمل كلام الله تعالى على وعده بتلك الغنائم لهم خاصة هو الذي عليه مجاهد وقتادة وعامة المفسرين، وقال ابن زيد: كلام الله قوله سبحانه وتعالى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة: ٨٣]
ووافقه الجبائي على ذلك وشنع عليهما غير واحد بأن ذلك نازل في المخلفين في غزوة تبوك من المنافقين وكانت تلك الغزوة يوم الخميس في رجب سنة تسع بلا خلاف كما قال القسطلاني والحديبية في سنة ست كما قاله ابن الجوزي. وغيره وهذه إنما نزلت بعيد الانصراف من الحديبية كما علمت وأيضا قال في البحر: قد غزت مزينة وجهينة من هؤلاء المخلفين بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام وفضلهم صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب، وفي الكشف لعل القائل بذلك أراد أن هؤلاء المحلفين لما كانوا منافقين مثل المخلفين عن تبوك كان حكم الله تعالى فيهم واحدا، ألا ترى أن المعنى الموجب مشترك وهو رضاهم بالقعود أول مرة، فكلام الله تعالى أريد به حكمه السابق وهو أن المنافق لا يستصحب في الغزو، ولم يرد أن هذا الحكم منقاس على ذلك الأصل أو الآية نازلة فيهم أيضا فهذا ما يمكن في تصحيحه انتهى، ويقال عما في البحر: إن الذين غزوا بعد لم يغزوا حتى أخلصوا ولم يبقوا منافقين والله تعالى أعلم. وقرأ حمزة. والكسائي «كلم الله» وهو اسم جنس جمعي واحده كلمة قُلْ إقناطا لهم لَنْ تَتَّبِعُونا أي لا تتبعونا فإنه نفي في معنى النهي للمبالغة، والمراد نهيهم عن الاتباع فيما أرادوا الاتباع فيه في قولهم: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ وهو الانطلاق إلى خيبر كما نقل عن محيي السنة عليه الرحمة، وقيل: المراد ولا تتبعونا ما دمتم مرضى القلوب، وعن مجاهد كان الموعد أي الموعد الذي تغييره تبديل كلام الله تعالى وهو موعده سبحانه لأهل الحديبية أنهم لا يتبعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم فكأنه قيل: لن تتبعونا إلا متطوعين، وقيل: المراد التأبيد، وظاهر السياق الأول كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن تهيأتم للخروج معنا وذلك عند الانصراف من الحديبية فَسَيَقُولُونَ للمؤمنين عند سماع هذا النهي بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نشارككم في الغنائم، وهو إضراب عن كونه بحكم الله تعالى أي بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسدا. وقرأ أبو حيوة «تحسدوننا» بكسر السين بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون إِلَّا قَلِيلًا أي إلا فهما قليلا وهو فهمهم لأمور الدنيا، وهو رد لقولهم الباطل في المؤمنين ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم وهو الجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين، وفيه إشارة إلى ردهم حكم الله تعالى وإثباتهم الحسد لأولئك السادة من الجهل وقلة التفكر قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في الذم وإشعارا بشناعة التخلف سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري بنو حنيفة مسيلمة وقومه أهل اليمامة، وعليه جماعة، وفي رواية عنه زيادة أهل الردة وروي ذلك عن الكلبي، وعن رافع بن خديج إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها، وعن عطاء بن أبي رباح. ومجاهد في رواية. وعطاء الخراساني. وابن أبي ليلى هم الفرس، وأخرجه ابن جرير والبيهقي في الدلائل. وغيرهما عن ابن عباس، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية: دعا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لقتال فارس أعراب المدينة جهينة ومزينة الذين كان النبي صلّى الله عليه وسلّم دعاهم للخروج إلى مكة، وقال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حنين، وفي رواية ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة التصريح بثقيف مع هوازن، وفي رواية الفريابي. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: هم هوازن وبنو حنيفة، وقال كعب: هم
الروم الذي خرج إليهم صلّى الله عليه وسلّم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة، وأخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وابن المنذر عن الحسن قال: هم فارس والروم، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: البارز يعني الأكراد كما في الدر المنثور، وأخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير عن مجاهد قال: اعراب فارس وأكراد العجم، وظاهر العطف أن أكراد العجم ليسوا من اعراب فارس، وظاهر إضافة أكراد إلى العجم يشعر بأن من الأكراد ما يقال لهم أكراد العرب، ولا نعرف هذا التقسيم وإنما نعرف جيلا من الناس يقال لهم أكراد من غير إضافة إلى عرب أو عجم، وللعلماء اختلاف
في كونهم في الأصل عربا أو غيرهم فقيل: ليسوا من العرب، وقيل منهم، قال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد ابن خلكان في ترجمة المهلب بن أبي صفرة ما نصه: حكى أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب في كتابه القصد والأمم في انساب العرب والعجم أن الأكراد من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء (١) وأنهم وقعوا إلى أرض العجم فتناسلوا بها وكثر ولدهم فسموا الأكراد، وقال بعض الشعراء في ذلك وهو يعضد ما قاله ابن عبد البر:
لعمرك ما الأكراد أبناء فارس | ولكنه كرد بن عمرو بن عامر |
ابن أخيه، وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل، والذي رجحه ابن حجر أن قبائل اليمن كلها ومنها قبيلة عمرو مزيقيا من ولد إسماعيل عليه السلام، ويدل له تبويب البخاري باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام ذكر ذلك السيد نور الدين على السمهودي في تاريخ المدينة، وفيه أن الأنصار الأوس. والخزرج من أولاد ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا المذكور وكان له ثلاثة عشر ولدا ذكورا منهم ثعلبة المذكور. وحارثة والد خزاعة. وجفنة والد غسان. ووداعة وأبو حارثة وعوف وكعب ومالك وعمران وكرد كما في القاموس انتهى.
وفائدة الخلاف تظهر في أمور منها الكفاءة في النكاح والعامة لا يعدونهم من العرب فلا تغفل، والذي يغلب على ظني أن هؤلاء الجيل الذين يقال لهم اليوم أكراد لا يبعد أن يكون فيهم من هو من أولاد عمرو مزيقيا وكذا لا يبعد أن يكون فيهم من هو من العرب وليس من أولاد عمرو المذكور إلا أن الكثير منهم ليسوا من العرب أصلا، وقد انتظم في سلك هذا الجيل أناس يقال: إنهم من ذرية خالد بن الوليد، وآخرون يقال: إنهم من ذرية معاذ بن جبل وآخرون يقال: إنهم من ذرية العباس بن عبد المطلب، وآخرون يقال: إنهم من بني أمية ولا يصح عندي من ذلك شيء بيد أنه سكن مع الأكراد طائفة من السادة أبناء الحسين رضي الله تعالى عنهم يقال لهم البرزنجية لا شك في صحة نسبهم وكذا في جلالة حسبهم، وبالجملة الأكراد مشهورون باليأس وقد كان منهم كثير من أهل الفضل بل ثبت لبعضهم الصحبة، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة في حرف الجيم: جابان والد ميمون روى ابن منده من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم عن أبي خلدة سمعت ميمون بن جابان الكردي عن أبيه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مرة حتى بلغ عشرا وذكر الحديث،
وقد أخرج نحوه الطبراني في المعجم الصغير عن ميمون الكردي عن أبيه أيضا وهو أتم منه ولفظه «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهوز ان وأيما رجل استدان دينا لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله فمات ولم يؤد إليه دينه لقي الله وهو سارق»
ويكنى ميمون هذا بأبي بصير بفتح الموحدة، وقيل: بالنون، وهو كما في التقريب مقبول، هذا وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة.
وقال أبو حيان: الذي أقوله إن هذه الأقوال تمثيلات من قائلها لا تعيين القوم، وهذا وإن حصل به الجمع بين تلك الأقوال خلاف الظاهر، وقوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على معنى يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، فأو للتنويع والحصر لا للشك وهو كثير، ويدل لذلك قراءة أبي وزيد بن علي «أو يسلموا» بحذف النون لأن ذلك للناصب وهو يقتضي أن أو بمعنى إلا أي إلا أن يسلموا فيفيد الحصر أو بمعنى إلى أي إلى أن يسلموا، والغاية تقتضي أنه لا ينقطع القتال بغير الإسلام فيفيده أيضا كما قيل: والجملة مستأنفة للتعليل كما في قولك: سيدعوك الأمير يكرمك أو يكبت عدوك، قال في الكشف: ولا يجوز أن تكون صفة لقوم لأنهم دعوا إلى قتال القوم لا أنهم دعوا إلى قوم موصوف بالمقاتلة أو الإسلام.
وجوز بعضهم كونها حالية وحاله كحال الوصفية، وأصل الكلام ستدعون إلى قوم أولي بأس لتقاتلوهم أو يسلموا فعدل إلى الاستئناف لأنه أعظم الوصلين، ثم فيه أنهم فعلوا ذلك وحصلوا الغرض فهو يخبر عنه واقعا.
والاعتراض بأنه يلزم أن لا ينفك الوجود عن أحدهما لصدق إخباره تعالى ونحن نرى الانفكاك بأن يتركوا سدى أو بالهدنة فينبغي أن يؤول بأنه في معنى الأمر على ما في أمالي ابن الحاجب غير سديد لأن القوم مخصوصون لا عموم فيهم، وكان الواقع أنهم قوتلوا إلى أن أسلموا سواء فسر القوم ببني حنيفة أو بثقيف وهوازن أو فارس والروم على أن الإسلام الانقياد فما انفك الوجود عن أحدهما وقعا، وأما امتناع الانفكاك فليس من مقتضى الوضع ولا الاستعمال بل ذلك في الكلام الاستدلالي قد يتفق.
وأطال الطيبي الكلام في هذا المقام ثم قال: الذي يقتضيه المقام ما ذهب إليه صاحب التحبير من أن يُسْلِمُونَ عطف على تُقاتِلُونَهُمْ إما على الظاهر أو بتقديرهم يسلمون ليكون من عطف الاسمية على الفعلية وحينئذ تكون المناسبة أكثر إذ تخرج الجملة إلى باب الكناية، والمعنى تقاتلونهم أو لا تقاتلونهم لأنهم يسلمون، وقد وضع فيه أَوْ يُسْلِمُونَ
موضع أولا تقاتلونهم لأنهم إذا أسلموا سقط عنهم قتالهم ضرورة، والاستدعاء عليه ليس إلا للاختبار، وأَوْ للترديد على سبيل الاستعارة وفيه ما فيه، وشاع الاستدلال بالآية على صحة إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ووجه ذلك الإمام فقال: الداعي في قوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ لا يخلو من أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو الأئمة الأربعة أو من بعدهم لا يجوز الأول لقوله سبحانه قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا إلخ ولا أن يكون عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه لأنه إنما قاتل البغاة والخوارج وتلك المقاتلة للإسلام لقوله عز وجل: «أو يسلمون» ولا من ملك بعدهم لأنهم عندنا على الخطأ وعند الشيعة على الكفر ولما بطلت الأقسام تعين أن يكون المراد بالداعي أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم، ثم إنه تعالى أوجب طاعته وأوعد على مخالفته وذلك يقتضي إمامته وأي الثلاثة كان ثبت المطلوب، أما إذا كان أبا بكر فظاهر، وأما إذا كان عمر أو عثمان فلأن إمامته فرع إمامته رضي الله تعالى عنه. وتعقب بأن الداعي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويشعر بذلك السين قوله: لا يجوز لقوله سبحانه: لن تَتَّبِعُونا إلخ فيه أن لَنْ لا تفيد التأبيد على الصحيح وظاهر السياق يدل على أن المراد به لن تتبعونا في الانطلاق إلى خيبر كما سمعت عن محيي السنة أو هو مقيد بما روي عن مجاهد أو بما حكي عن بعض، وقال أبو حيان: القول بأنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس بصحيح فقد حضر كثير منهم مع جعفر في مؤتة وحضروا حرب هوازن معه عليه الصلاة والسلام وحضروا معه صلّى الله عليه وسلّم أيضا في سفرة تبوك انتهى، ولا يخفى أن هذا إذا صح ينفي حمل النفي على التأييد.
ومن الشيعة من اقتصر في رد الاستدلال على الدعوة في تبوك. وتعقب بأنه لم يقع فيها ما أخبر الله تعالى به في قوله سبحانه: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ومنهم من زعم أن الداعي علي كرم الله تعالى وجهه وزعم كفر البغاة
والخوارج عليه رضي الله تعالى عنه وأنه لو سلّم إسلامهم يراد بالإسلام في الآية الانقياد إلى الطاعة وموالاة الأمير، وفيه ما لا يخفى، والإنصاف أن الآية لا تكاد تصح دليلا على إمامة الصديق رضي الله تعالى عنه إلا إن صح غير مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة ونحوهم ودون ذلك خرط القتاد، ونفى بعضهم صحة كون المراد بالقوم فارسا والروم لأن المراد في قوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على ما سمعت وفارس مجوس والروم نصارى فلا يتعين فيهم أحد الأمرين من المقاتلة والإسلام إذ يقبل منهم الجزية، وكذا اليوم ومشركو العجم والصابئة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال: يتعين كونهم مرتدين أو مشركي العرب لأنهم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومثل مشركي العرب مشركو العجم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه فعنده لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، وأنت تعلم ان من فسر القوم بذلك يفسر الإسلام بالانقياد وهو يكون بقبول الجزية فلا يتم له أمر النفي فلا تغفل فَإِنْ تُطِيعُوا الداعي فيما دعاكم إليه يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو على ما قيل الغنيمة في الدنيا والجنة في الأخرى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن الدعوة كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ في الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم، وهذا التعذيب قال في البحر: يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة، ويحتمل عندي وهو الأوفق بما قبله على ما قيل كونه فيهما ولا بأس بكون كل من الإيتاء والتعذيب في الآخرة بل لعله المتبادر لكثرة استعمالهما في ذلك، ولا يحسن كون الأمرين في الدنيا ولا كون الأول في الآخرة أو فيها وفي الدنيا والثاني في الدنيا فقط لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ أي إثم وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي في التخلف عن الغزو لما بهم من العذر والعاهة، وفي نفي الحرج عن كل من الطوائف المعدودة مزيد اعتناء بأمرهم وتوسيع لدائرة الرخصة، وليس في نفي ذلك عنهم نهي لهم عن الغزو بل قالوا: إن أجرهم مضاعف في الغزو، وقد غزا ابن أم مكتوم وكان أعمى رضي الله تعالى عنه وحضر في بعض حروب القادسية وكان يمسك الراية. وفي البحر لو حصر المسلمون فالفرض متوجه بحسب الوسع في الجهاد وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما ذكر من الأوامر والنواهي.
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ عن الطاعة يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً لا يقادر قدره والمعنى بالوعد والوعيد هنا أعم من المعنى بهما فيما سبق كما ينبىء عن ذلك التعبير بمن هنا وبضمير الخطاب هناك، وقيل في الوعيد يُعَذِّبْهُ إلخ دون يدخله نارا ونحوه مما هو أظهر في المقابلة لقوله تعالى: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ إلخ اعتناء بأمره من حيث إن التعذيب يوم القيامة عذابا أليما يستلزم إدخال النار وإدخالها لا يستلزم ذلك، واعتنى به لأن المقام يقتضيه ولذا جيء به كالمكرر مع الوعيد السابق، ويكفي في الإشارة إلى سبق الرحمة إخراج الوعد هاهنا كالتفصيل لما تقدم والتعبير هناك بإيتاء الأجر الحسن الظاهر في الاستحقاق مع إسناد الإيتاء إلى الاسم الجليل نفسه فتأمل فلمسلك الذهن اتساع. وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة وابن عامر ونافع «ندخله» و «نعذبه» بالنون فيهما، ولما ذكر سبحانه حال من تخلف عن السفر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر عز وجل حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وهم أهل الحديبية إلا جد بن قيس فإنه كان منافقا ولم يبايع.
وأصل هذه البيعة وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى فيها: لَقَدْ رَضِيَ إلخ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية بعث خراشا بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة وألف بعدها شين معجمة ابن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة وحمله على جمل له يقال له: الثعلب يعلمهم أنه جاء معتمرا لا يريد قتالا فلما أتاهم وكلمهم عقروا جمله وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فدعا عمر رضي الله تعالى عنه ليبعثه فقال: يا رسول الله إن القوم
قد عرفوا عداوتي لهم وغلظي عليهم وإني لا آمن وليس بمكة أحد من بني عدي يغضب لي إن أوذيت فأرسل عثمان ابن عفان فإن عشيرته بها وهم يحبونه وأنه يبلغ ما أردت فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان فأرسله إلى قريش
وقال: أخبرهم أنّا لم نأت بقتال وإنما جئنا عمارا وادعهم إلى الإسلام
وأمره عليه الصلاة والسلام أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله تعالى قريبا يظهر دينه بمكة فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى قريش وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله عليها وأجاره فأتى قريشا فأخبرهم فقالوا له إن شئت فطف بالبيت وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه فقد رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحتبسوه فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين أن عثمان قد قتل
فقال عليه الصلاة والسلام: لا نبرح حتى نناجز القوم
ونادى مناديه عليه الصلاة والسلام إلا أن روح القدس قد نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمره بالبيعة فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوه فثار المسلمون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبايعوه، قال جابر كما في صحيح مسلم وغيره: بايعناه صلّى الله عليه وسلّم على أن لا نفرّ ولم نبايعه على الموت.
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة، قيل:
على أي شيء تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت
وأخرج مسلم عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبايع الناس وكان أول من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ أبا سنان وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل: سنان بن أبي سنان،
وروى الأول البيهقي في الدلائل عن الشعبي وأنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ابسط يدك أبايعك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: علام تبايعني؟ قال: على ما في نفسك
. وفي حديث جابر الذي أخرجه مسلم أنه قال: بايعناه عليه الصلاة والسلام وعمر رضي الله تعالى عنه آخذ بيده، ولعل ذلك ليس في مبدأ البيعة وإلا ففي صحيح البخاري عن نافع أن عمر رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية أرسل ابنه عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر رضي الله تعالى عنه يستلئم للقتال فأخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبايع تحت الشجرة فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم ضرب بيده اليمنى على يده الأخرى وقال: هذه بيعة عثمان
ولما سمع المشركون بالبيعة خافوا وبعثوا عثمان رضي الله تعالى عنه وجماعة من المسلمين وكانت عدة المؤمنين ألفا وأربعمائة على الأصح عند أكثر المحدثين ورواه البخاري عن جابر، وروي عن سعيد بن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة فقال لي سعيد: حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعه أبو داود. وروي أيضا عن عبد الله بن أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وعند أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع أنهم كانوا ألفا وسبعمائة، وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة، وحكى ابن سعد أنهم ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون، وجمع بين الروايات بأنها بناء على عد الجميع أو ترك الأصاغر والأتباع والأوساط أو نحو ذلك وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه لأنه قاله استنباطا من قول جابر: تنحر البدنة عن عشرة وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن مع أن بعضهم كأبي قتادة لم يكن أحرم أصلا، والشجرة كانت سمرة، والمشهور أن الناس كانوا يأتونها فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فأمر بقطعها خشية الفتنة بها لقرب الجاهلية وعبادة غير الله تعالى فيهم.
وفي الصحيحين من حديث طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال: حدثني أبي أنه كان ممن بايع رسول الله عليه الصلاة والسلام تحت الشجرة قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر
عليها ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأيكم أعلم، والرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدى بنفسه وهو مع عن إنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا وما في الآية من هذا القسم، والمعنى الموجب للرضا فيها هو المبايعة، وإذا ذكر مع العين معنى بالباء فقيل رضيت عن زيد بإحسانه كانت الباء للسببية وجاز أن تكون صلة وتتعين للسببية مع مقابلة نحو سخطت عليه بإساءته وهو مع الباء نحو رضيت به يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدا للمعنى ليكون أبلغ فتقول رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله تعالى ربا وقاضيا، وإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو رضيت زيدا وإن كان باعتبار المعنى تنبيها على أن كله مرضي بتلك الخصلة، وفيه مبالغة، وجاز دخوله على المعنى كرضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالا، وإذا استعمل مع اللام تعدى بنفسه كقولك: رضيت لك التجارة، وفيه تجوز إما لجعل الرضا مجازا عن الاستحماد وإما لأنك جعلت كونه مرضيا له بمنزلة كونه مرضيا لك مبالغة في أنه في نفسه مرضي محمود وانك تختار له ما تختار لنفسك وهذا أبلغ، ثم هو في حق الحق تعالى شأنه محال عند الخلف قالوا: لأن سبحانه لا تحدث له صفة عقيب أمر البتة، فهو عندهم مجاز إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده، وأما من أسماء الأفعال إذا فسر بالإثابة وكذا إذا أريد الاستحماد وفي البحر أن العامل بإذ في الآية هو رضي وهو هنا بمعنى إظهار عليهم فهو صفة فعل لا صفة ذات ليتقيد بالزمان، وأنت تعلم أن السلف لا يؤولون مثل ذلك ويثبتونه له تعالى على الوجه اللائق به سبحانه ويصرفون الحدوث الذي يستدعيه التقييد بالزمان إلى التعلق، ثم إن تقييد الرضا بزمان المبايعة يشعر بعلّيتها له فلا حاجة إلى جعل إذ للتعليل، والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة المبايعة، وقوله سبحانه: تَحْتَ الشَّجَرَةِ إما متعلق بيبايعونك أو بمحذوف هو حال من مفعوله، وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة وأنها لم تكن عن خوف منه عليه الصلاة والسلام ولذا استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء ويستتبع ما لا يكاد يخطر على بال ويكفي فيما ترتب على ذلك ما
أخرج أحمد عن جابر. ومسلم عن أم بشر عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة»
وقد قال عليه الصلاة والسلام ذلك عند حفصة فقالت: بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] فقال عليه الصلاة والسلام قد قال الله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: ٧٢].
وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من
حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: أنتم خير أهل الأرض
فينبغي لكل من يدعي الإسلام حبهم وتعظيمهم والرضا عنهم وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وعثمان منهم بل كانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له رضي الله تعالى عنه. كما قال أنس. خيرا من أيديهم لأنفسهم فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي من الصدق والإخلاص في مبايعتهم، وروي نحو ذلك عن قتادة وابن جريج وعن الفراء، وقال الطبري. ومنذر بن سعيد: من الإيمان وصحته وحب الدين والحرص عليه، وقيل: من الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم، واستحسنه أبو حيان والأول عندي أحسن.
وهو عطف على يُبايِعُونَكَ لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك، وجوز عطفه على رَضِيَ بتأويله بظهر علمه فيصير مسببا عن الرضا مترتبا عليه فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ أي الطمأنينة والأمن وسكون النفس والربط على قلوبهم بالتشجيع، وقيل: بالصلح وليس بذاك، والظاهر أنه عطف على فَعَلِمَ.
وفي الإرشاد أنه عطف على رَضِيَ وظاهر كلام أبي حيان الأول وحيث استحسن تفسير ما في القلوب بما سمعت آنفا قال: إن السكينة هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى، وقال مقاتل: فعلم الله ما في قلوبهم من