
ابتداء كلام، ف طاعَةٌ على هذا القول: ابتداء، وخبره: لَهُمْ والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة، فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا.
وقوله: عَزَمَ الْأَمْرُ استعارة كما قال:
قد جدت الحرب بكم فجدوا ومن هذا الباب: نام ليلك ونحوه.
وقوله: صَدَقُوا اللَّهَ يحتمل أن يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب، ويحتمل أن يكون من قولك عود صدق، والمعنى متقارب.
وقوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ مخاطبة لهؤلاء الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي قل لهم يا محمد.
وقرأ نافع وأهل المدينة «عسيتم» بكسر السين. وقرأ أبو عمرو والحسن وعاصم وأبو جعفر وشيبة:
«عسيتم» بفتح السين، والفتح أفصح، لأنه من عسى التي تصحبها «أن». والمعنى: فهل عسى أن تفعلوا إِنْ تَوَلَّيْتُمْ غير أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، وكأن الاستفهام الداخل على عسى غير معناها بعض التغيير كما يغير الاستفهام قولك: أو لو كان كذا وكذا. وقوله: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ معناه: إن أعرضتم عن الحق. وقال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن.
وقرأ جمهور القراء: «إن توليتم» والمعنى: إن أعرضتم عن الإسلام. وقال كعب الأحبار ومحمد بن كعب القرظي المعنى: إن توليتم أمور الناس من الولاية، وعلى هذا قيل إنها نزلت في بني هاشم وبني أمية، ذكره الثعلبي. وروى عبد الله بن مغفل عن النبي عليه السلام: «إن وليتم» بواو مضمومة ولام مكسورة. قرأ علي بن أبي طالب: «إن تولّيتم» بضم التاء والواو وكسر اللام المشددة على معنى: إن وليتكم ولاية الجور فملتم إلى دنياهم دون إمام العدل، أو على معنى: إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وأفعال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والسباء، فإنما كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، وقيل معناها: إن توليكم الناس ووكلكم الله إليهم.
وقرأ جمهور الناس: «وتقطّعوا» بضم التاء وشد الطاء المكسورة. وقرأ أبو عمرو: «وتقطعوا» بفتح التاء والطاء المخففة، وهي قراءة سلام ويعقوب.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إشارة إلى مرضى القلوب المذكورين. و: لَعَنَهُمُ معناه: أبعدهم. وقوله: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ استعارة لعدم سمعهم فكأنهم عمي وصم.
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٤ الى ٢٨]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)

قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ توقيف وتوبيخ، وتدبر القرآن: زعيم بالتبيين والهدى.
و: أَمْ منقطعة وهي المقدرة ببل وألف الاستفهام.
وقوله تعالى: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها استعارة للرين الذي منعهم الإيمان. وروي أن وفد اليمن وفد على النبي ﷺ وفيهم شاب، فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية، فقال الفتى عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويفرجها، قال عمر: فعظم في عيني، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي الخلافة فاستعان بذلك الفتى.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ الآية، قال قتادة: إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد عليه السلام وتبين لهم الهدى بهذا الوجه، فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى. وقال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم. والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر. و: سَوَّلَ معناه: أرجاهم سولهم وأمانيهم، وقال أبو الفتح عن أبي علي أنه بمعنى: دلاهم، مأخوذ من السول: وهو الاسترخاء والتدلي.
وقرأ جمهور القراء: «وأملى لهم» وأمال ابن كثير وشبل وابن مصرف: «أملى». وفاعل أَمْلى هنا:
قال الحسن: هو الشَّيْطانُ جعل وعده الكاذب بالبقاء كالإملاء، وذلك أن الإملاء هو الإبقاء ملاوة من الدهر، يقال ملاوة وملاوة وملاوة بضم الميم وفتحها وكسرها، وهي القطعة من الزمن، ومنه الملوان الليل والنهار، فإذا أملى الشيطان إملاء لا صحة له إلا بطمعهم الكاذب، ويحتمل أن يكون الفاعل في أَمْلى الله عز وجل، كأنه قال: الشيطان سول لهم وأملى الله لهم. وحقيقة الإملاء إنما هو بيد الله عز وجل، وهذا هو الأرجح. وقرأ الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش: «وأملي لهم» بضم الهمزة وكسر اللام وإرسال ياء المتكلم، ورواها الخفاف عن أبي عمرو «وأملي» بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول، وهي قراءة شيبة وابن سيرين والجحدري وعيسى البصري وعيسى الهمذاني، وهذا يحتمل فاعله من الخلاف ما في القراءة الأولى.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا الآية، قيل إنها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدم ذكرهم في تفسير قوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وروي أن قوما من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في أمر رسول الله ﷺ والخلاف عليه بنصر وموازرة، وذلك قولهم سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.
وقرأ جمهور القراء «أسرارهم» بفتح الهمزة، وذلك على جمع سر، لأن أسرارهم كانت كثيرة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «إسرارهم» بكسر الهمزة، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش، وهو مصدر اسم الجنس.