
وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ قرأ يعقوب، وأبو حاتم، وسلام (وَتَقْطَعُوا) خفيفة من القطع اعتبارا بقوله: وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «١» وقرأ الحسن يقطّعوا مفتوحة الحروف، اعتبارا بقوله: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ «٢». وقرأ غيرهم وَتُقَطِّعُوا بضم (التاء) مشدّدا من التقطيع على التكثير لأجل الأرحام.
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ عن الحقّ.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٤ الى ٣٨]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها تفهم مواعظ القرآن، وأحكامه، أخبرنا عقيل ابن محمّد، أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمّد بن جرير، حدّثنا ابن حميد، حدّثنا يحيى بن واضح، حدّثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، قال: ما من النّاس أحد إلّا وله أربع أعين:
عينان في وجهه لدنياه، ومعيشته، وعينان في قلبه لدينه، وما وعد الله من الغيب. وما من أحد إلّا وله شيطان متبطّن فقار ظهره، عاطف عنقه على عاتقه، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللّتان في قلبه ما وعد الله تعالى من الغيب، فيعمل به، وإذا أراد الله بعبد شرّا طمس عليهما، فذلك قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها.
(٢) سورة المؤمنون: ٥٣.

وبه عن ابن جرير، حدّثنا بشير، حدّثنا حمّاد بن زيد، حدّثنا هشام بن عبده عن أبيه، قال:
تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتّى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتّى ولي فاستعان به.
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى قال قتادة: هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّد وهم يعرفونه ويجدون نعته مكتوبا عندهم، وقال ابن عبّاس والضحّاك والسدي: هم المنافقون.
الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ زيّن لهم وَأَمْلى لَهُمْ قرأ أبو عمرو بضم (الألف) وفتح (الياء) على وجه ما لم يسمّ فاعله. وقرأ مجاهد، ويعقوب بضمّ (الألف) وإرسال (الياء) على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنّه يفعل ذلك بهم وهو اختيار أبي حاتم. وقرأ الآخرون وَأَمْلى بفتح (الألف) بمعنى وأملى الله لهم وهو اختيار أبي عبيدة.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني هؤلاء المنافقين أو اليهود قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ وهم المشركون. سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ في مخالفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والقعود عن الجهاد.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قرأ أهل الكوفة إلّا أبو بكر بكسر (الألف) على الفعل، غيرهم بفتحها على جمع السر.
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ (بالتاء) قراءة العامّة، وقرأ عيسى بن عمر (توفّيهم) (بالياء). الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ عند الموت، نظيرها في الأنفال والنحل. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك، يعني المنافقين أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أحقادهم على المؤمنين، واحدها ضغن، فيبديها لهم حتّى يعرفوا نفاقهم. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي لأعلمناكهم، وعرفناكهم، ودللناك عليهم، تقول العرب: سأريك ما أصنع بمعنى سأعلمك، ومنه قوله تعالى: بِما أَراكَ اللَّهُ «١».
فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامتهم،
قال أنس بن مالك: ما أخفي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنّا معه في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشكوهم النّاس، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كلّ واحد منهم مكتوب هذا منافق.
فذلك قوله: بِسِيماهُمْ.
وقال ابن زيد: قد أراد الله إظهار نفاقهم، وأمر بهم أن يخرجوا من المسجد، فأبوا إلّا أن

يمسكوا بلا إله إلّا الله، فلمّا أبوا أن يمسكوا إلّا بلا إله إلّا الله، حقنت دماؤهم، ونكحوا، ونكحوا بها.
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ قال ابن عبّاس: في معنى القول: الحسن في فحواه.
القرظي: في مقصده ومغزاه. واللحن وجهان: صواب، وخطأ، فأمّا الصواب فالفعل منه لحن يلحن لحنا، فهو لحن إذا فطن للشيء، ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض»
[٢١] «١»، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحنا، فهو لاحن، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته، وفي الخبر أنّه قيل لمعاوية: إنّ عبيد الله بن زياد يتكلّم بالفارسية، فقال: أليس طريفا من ابن أخي أن يلحن في كلامه أي يعدل به من لغة إلى لغة، قال الشاعر:
وحديث الذه هو ممّا... ينعت الناعتون يوزن وزنا «٢»
منطق صائب وتلحن أحيانا... وخير الحديث ما كان لحنا
يعني ترتل حديثها.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ قرأ العامّة كلّها بالنون لقوله: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ «٣». وروى أبو بكر والمفضل، عن عاصم كلّها (بالياء). وقرأ يعقوب، (وَنَبْلُوا) ساكنة (الواو) ردّا على قوله: (نَعْلَمَ).
قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضل إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبلنا، فإنّك إن بلوتنا هتكت أستارنا، وفضحتنا.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ قال ابن عبّاس: هم المطعمون يوم بدر، نظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «٤»... الآية.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بمعصيتها، قال مقاتل والثمالي: لا تمنوا على رسول الله فتبطلوا أعمالكم، نزلت في بني أسد. وسنذكر القصة في سورة الحجرات إن شاء الله. وقيل: بالعجب والرياء.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قيل: هم أصحاب القليب، وحكمها عام فَلا تَهِنُوا تضعفوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ إلى الصلح وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
(٢) الصحاح: ٦/ ٢١٩٤.
(٣) سورة محمد: ٣٠.
(٤) سورة الأنفال: ٣٦.

لأنّكم مؤمنون محقّون.
وَاللَّهُ مَعَكُمْ قال قتادة: لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال ابن عبّاس وقتادة والضحّاك وابن زيد: لن يظلمكم. مجاهد: لن ينقصكم أعمالكم بل يثيبكم عليها، ويزيدكم من فضله، ومنه
قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من فاته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله»
[٢٢] «١» أي ذهب بهما.
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ ربّكم.
أَمْوالَكُمْ لا يسألكم الأجر، بل يأمركم بالإيمان، والطاعة ليثيبكم عليها الجنّة، نظيره قوله:
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ «٢».. الآية، وقيل: (وَلا يَسْئَلْكُمْ) محمّد صدقة أموالكم، نظيره قوله:
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ... «٣» وقيل: معنى الآية وَلا يَسْئَلْكُمْ الله ورسوله أَمْوالَكُمْ كلّها إنّما يسألانكم غيضا من فيض، ربع العشر فطيبوا بها نفسا، وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة وهو اختيار أبي بكر بن عبدش، قال: حكى لنا ابن حبيب عنه، يدلّ عليه سياق الآية.
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ فيجهدكم ويلحّ ويلحفكم عليها، وقال ابن زيد: الإحفاء أن تأخذ كلّ شيء بيدك.
تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ قال قتادة: قد علم الله تعالى أنّ في مسألة المال خروج الأضغان ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عن صدقاتكم وطاعتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إليها وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في الطواعية، بل يكونوا أطوع لله تعالى وأمثل منكم، قال الكلبي: هم كندة والنخع. الحسن: هم العجم. عكرمة: فارس والروم.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد ابن الحسين بن عبد الله بن منجويه الدينوري، حدّثنا عمر بن الخطّاب، حدّثنا عبد الله بن الفضل، حدّثنا يحيى بن أيّوب، حدّثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عبد الله بن نجيح، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن إن تولّينا استبدلوا، ثمّ لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان إلى جانب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخذ سلمان وقال: «هذا وقومه «٤»، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان معلّقا «٥» بالثريا لناله لتناوله رجال من فارس» [٢٣] «٦».
(٢) سورة الذاريات: ٥٧.
(٣) سورة ص: ٨٦.
(٤) في المصدر: أصحابه بدلا من «وقومه».
(٥) في المصدر: منوطا بدلا من «معلقا».
(٦) سنن الترمذي: ٥/ ٦٠.