آيات من القرآن الكريم

أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ

٦- إن جزاء الكافرين عسير ومظلم وشاق، فالخيبة والخزي والهزيمة لهم في الدنيا، وإبطال أعمالهم في الآخرة، بسبب كراهيتهم ما أنزل اللَّه من الكتب والشرائع، ولأن أعمالهم كانت في طاعة الشيطان، فيحبط اللَّه ما لهم من أعمال الخيرات، كعمارة المسجد الحرام وغيره، وقرى الضيف، وأصناف القرب، ولا يقبل اللَّه العمل إلا من مؤمن.
وبه يتبيّن الفرق بين موتى الكافرين في قوله تعالى: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ وبين موتى المسلمين وقتلاهم حيث قال تعالى في حقهم: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ.
النظر في آثار الأمم السابقة والتأمل في أحوال المؤمنين والكافرين
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٠ الى ١٤]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
الإعراب:
فَيَنْظُرُوا إما مجزوم بالعطف بالفاء على يَسِيرُوا أو في موضع نصب على جواب الاستفهام بالفاء بتقدير «أن».
مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ أَخْرَجَتْكَ: أي أخرجك أهلها، ولهذا قال:

صفحة رقم 94

أهلكناهم، فحذف الأصل، وأقيم ضمير القرية مقامهم، فصار ضمير القرية في موضع رفع ب «أخرج» كما كان ضمير الأهل كذلك، ثم استتر ضمير القرية في «أخرج» وظهرت علامة التأنيث، لأن القرية مؤنثة، وهذا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، مثل فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ [محمد ٤٧/ ٢١] أي أصحاب الأمر.
البلاغة:
وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها من وضع الظاهر موضع المضمر.
الَّتِي أَخْرَجَتْكَ مجاز مرسل أي أخرجك أهلها، والإخراج باعتبار التسبب. وكذا قوله مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل أطلق المحل وأريد الحالّ.
المفردات اللغوية:
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أهلك أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وهو أبلغ من قوله: دمرهم اللَّه، فهذا يدلّ على الإهلاك مطلقا، والأول: إهلاك ما يختص به الإنسان من نفسه وماله وولده وغيره.
وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أمثال تلك العاقبة أو العقوبة، لأن التدمير يدلّ عليها. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أي نصر المؤمنين وقهر الكافرين بسبب ولاية اللَّه. مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ولي وناصر المؤمنين، أي ناصر المؤمنين على أعدائهم. وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ لا ناصر لهم يدفع العذاب عنهم. ويأتي المولى بمعنى المالك كما في قوله تعالى: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يونس ١٠/ ٣٠] أي إلى مالك أمورهم والمتصرف في شؤونهم.
يَتَمَتَّعُونَ ينتفعون بمتاع الدنيا. وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم، ولا يلتفتون إلى العاقبة أو الآخرة. مَثْوىً منزل ومقام ومصير. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي وكم من أهل قرية. مِنْ قَرْيَتِكَ أي مكة أي من أهل مكة، حذف المضاف وأجريت أحكامه على المضاف إليه، وقوله مِنْ قَرْيَتِكَ روعي فيه لفظ قرية. أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب، روعي فيه معنى قَرْيَةٍ الأولى. فَلا ناصِرَ لَهُمْ من إهلاكنا.
بَيِّنَةٍ حجة وبرهان، وتشمل القرآن والحجج العقلية. سُوءُ عَمَلِهِ كالشرك والمعاصي. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في عبادة الأوثان، فلا شبهة دليل لهم في ذلك، فضلا عن وجود حجة لديهم. والجواب عن قوله: أَفَمَنْ كانَ وكَمَنْ زُيِّنَ هو لا مماثلة بين المؤمنين وكفار مكة.

صفحة رقم 95

سبب النزول:
نزول الآية (١١) :
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى:
قال قتادة: نزلت يوم أحد والنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الشّعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قولوا: اللَّه مولانا، ولا مولى لكم»
وقد تقدّم ذلك.
نزول الآية (١٣) :
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ:
أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلقاء الغار، نظر إلى مكة، فقال: أنت أحبّ بلاد اللَّه إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك، لم أخرج منك، فأنزل اللَّه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ الآية. وذكره الثعلبي أيضا عن قتادة وابن عباس، وهو حديث صحيح.
المناسبة:
بعد أن أبان اللَّه تعالى مصير الكافرين والمؤمنين، ونعى على الأولين، وأثنى على الآخرين تنبيها على وجوب الإيمان، حضّ على النظر في آثار الأمم المتقدّمة، والتأمل في أحوال المؤمنين والكافرين، للعبرة والعظة، وإدراك أن اللَّه ناصر المؤمنين وخاذل الكافرين، ومنعم على أهل الإيمان والصلاح بالجنة، بسبب تبيّنهم الحق، ومعاقب الكفار بالنار، بسبب اتباعهم أهواءهم في عبادة الأوثان.
التفسير والبيان:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها؟ أي أفلم يمش هؤلاء المشركون بالله تعالى

صفحة رقم 96

المكذبون لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الأرض أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا، فيروا كيف كان مصير الأمم السالفة، وما آل إليه أمر الكافرين من قبلهم، فإن آثار العذاب في ديارهم بسبب تكذيبهم وكفرهم باقية، لقد هدّم اللَّه عليهم ديارهم، وأهلكهم واستأصلهم، فلم يبق من الأهل والولد والمال شيئا يذكر، ونجّى اللَّه تعالى المؤمنين من بين أظهرهم.
ولهؤلاء الكافرين المكذبين ولجميع الأمم الكافرة أمثال عاقبة من قبلهم من الكفرة. وقد عوقب كفار قريش في الدنيا بالهزيمة المنكرة في بدر وفتح مكة، ولهم عقاب أشدّ في نار جهنم في الآخرة.
وسبب العقاب ما قال تعالى:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ أي ذلك التدمير والاستئصال للكافرين، ونجاة المؤمنين بسبب أن اللَّه ناصر عباده الذين آمنوا بالله تعالى وأطاعوا رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن الكافرين الجاحدين بالله تعالى والمكذبين رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ناصر لهم يدفع عنهم العذاب، فوقعت العقوبة بهم.
ولما بيّن اللَّه تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا، بيّن حالهم في الآخرة، فقال:
١- إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي إن اللَّه ينعم يوم القيامة على عباده الذين آمنوا بالله وصدقوا به وعملوا صالح الأعمال، فقاموا بالفرائض واجتنبوا المعاصي، بدخول الجنات (البساتين) التي تجري الأنهار من تحت قصورها، تكريما لهم.
٢- وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي والذين جحدوا بوجود اللَّه وتوحيده وكذبوا رسوله ينتفعون بمتاع الدنيا، ويأكلون منها كأكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لا همّ لهم إلا بطونهم

صفحة رقم 97

وفروجهم، ساهون عن العاقبة، لاهون بما هم فيه، ولهذا
ثبت في الحديث الصحيح عند أحمد والشيخين والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر: «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء».
ونار جهنم يوم جزائهم مسكن ومنزل لهم يستقرون فيه.
والخلاصة: أن اللَّه يدخل المؤمن الجنة، والكافر النار في عالم الآخرة.
ثم هدّد اللَّه تعالى مشركي مكة وأوعدهم بقوله:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ، أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ أي وكثير من أهل المدن والأمم السالفة ذات القوة والنفوذ كانوا أشدّ بأسا وقوة من أهل مكة الذين أخرجوك منها، فأهلكناهم، ولم يجدوا لهم ناصرا ولا معينا يدفع عنهم العذاب، فبالأولى من هو أضعف منهم، وهم قريش.
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو سيّد وخاتم الأنبياء. فإذا أهلك اللَّه عزّ وجلّ عتاة الأمم الذين كذبوا الرّسل، فسيفعل الأمر نفسه بأمثالهم، وإن امتنع إيقاع عذاب الاستئصال في الدنيا بسبب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي الرحمة، فإن العذاب لهم كائن لا محالة في الآخرة.
ثم أبان اللَّه تعالى سبب التفرقة في جزاء الفريقين، فقال على طريق الإنكار:
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي أفمن كان على بصيرة ويقين من أمر دينه وبما جبل عليه من الفطرة السليمة بتوحيد اللَّه، كمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، وهو عبادة الأوثان، والإشراك بالله، واقتراف المعاصي، واتبعوا أهواءهم في عبادتها، وانهمكوا في أنواع الضلالات، بلا شبهة توجب الشّك، فضلا عن حجة صحيحة. والمعنى لا يستوي الفريقان.

صفحة رقم 98

ونحو الآية قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الرعد ١٣/ ١٩]، وقوله سبحانه: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر ٥٩/ ٢٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- هدّد الحق تعالى بحال الأقدمين، ودعا كفار قريش والناس قاطبة إلى النظر بقلوبهم في مصير الكافرين المكذبين، كيف أهلكهم واستأصلهم، وأعلن صراحة أن للكافرين في كل عصر وجيل أمثال هذه الفعلة، يعني التدمير، أو أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة، إن لم يؤمنوا.
٢- ذلك الإهلاك والهوان بسبب أن اللَّه تعالى ناصر المؤمنين، وأما الكافرون الذين اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضرّ، وتركوا اللَّه تعالى، فلا ناصر لهم ولا معين يمنع عنهم العذاب.
٣- إن جزاء الفريقين مختلف، فالله تعالى يدخل المؤمنين الذين عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، وأما الكافرون فإنهم يتمتعون في الدنيا كأنهم أنعام، ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عما في المستقبل، ونار جهنم في الآخرة منزلهم ومقامهم ومسكنهم الذي لا يفارقونه.
قال الرازي: كثيرا ما يقتصر اللَّه على ذكر الأنهار في وصف الجنة، لأن الأنهار يتبعها الأشجار، والأشجار تتبعها الثمار، والماء سبب حياة العالم، والنار سبب الإعدام، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرّر بها «١».

(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ٥١

صفحة رقم 99
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية