
ثم بيّن أن من فعل ذلك فقد بلغ الغاية فى الضلال، والبعد عن الصراط السوىّ فقال:
(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وأولئك الذين يفعلون ذلك يكونون فى ضلال بيّن، وجور عن قصد السبيل، لأن طريق الحق واضحة وأعلامه منصوبة، والوصول إليه ميسور، فمن جانفه وأعرض عنه فقد أجرم واستحق الجزاء الذي هو له أهل.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
تفسير المفردات
لم يعى: أي لم يعجز، قال الكسائي: يقال أعييت من التعب، وعييت من انقطاع الحيلة والعجز، قال عبيد بن الأبرص:
عيّوا بأمرهم كما... عيّت ببيضتها الحمامه
أولو العزم: أي ذوو الحزم والصبر، قال مجاهد: هم خمسة نظمهم الشاعر فى قوله:
أولو العزم نوح والخليل الممجّد... وموسى وعيسى والحبيب محمد
بلاغ: أي كفاية فى الموعظة.

المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم، وأبطل قول عبدة الأصنام، ثم ثنى بإثبات النبوة وذكر شبهاتهم فى الطعن فيها وأجاب عنها- أردف ذلك إثبات البعث وأقام الدليل عليه، فذكر أن من خلق السموات والأرض على عظمهن فهو قادر على أن يحيى الموتى، ثم أعقب هذا بما يجرى مجرى العظة والنصيحة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على أذى قومه كما صبر من قبله أولو العزم من الرسل، وبعدم استعجال العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وحين نزوله بهم سيستقصرون مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار لهول ما عاينوا، ثم ختم السورة بأن فى هذه العظات كفاية أيّما كفاية، وما يهلك إلا من خرج عن طاعة ربه، ولم ينقد لأمره ونهيه.
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الخلق بعد وفاتهم، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلاهم، فيعلموا أن الذي خلق السموات والسبع والأرض فابتدعهن من غير شىء، ولم يعى فى إنشائهن- بقادر على أن يحيى الموتى فيخرجهم من بعد بلاهم فى قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم؟.
ونحو الآية قوله عز وجل: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».
والخلاصة- إن من قال للسموات والأرض كونى فكانت لا ممانعة ولا مخالفة، طائعة خائفة وجلة- أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى؟

ثم أجاب عن ذلك مقرّرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود فقال:
(بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي بلى إن الذي خلق ذلك- ذو قدرة على كل شىء أراد خلقه، ولا يعجزه شىء أراد فعله.
وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال لوضوح الجواب إذ لا يختلف فيه أحد، ولا يعارض فيه ذو لبّ.
ولما أثبت البعث بما أقام من الأدلة ذكر ما يحدث حينئذ من الأهوال فقال:
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي ويوم يعرض هؤلاء المكذبون بالبعث وبثواب الله لعباده على أعمالهم الصالحة، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة- على نار جهنم يقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم وقد كنتم تكذبون به فى الدنيا- بالحق الذي لا شك فيه؟
قالوا من فورهم: بلى وربنا إنه لحق.
(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي قال آمرا لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار الآن جزاء جحودكم به فى الدنيا، وإبائكم الاعتراف به إذا دعيتم للتصديق به.
ولما قرر التوحيد والنبوة والبعث وأجاب عن شبهاتهم- أردف ذلك ما يجرى مجرى العظة والنصيحة لنبيّه، لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوغرون صدره فقال:
(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي فاصبر أيها الرسول على ما أصابك فى الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم منذرا، كما صبر أولو العزم من الرسل على القيام بأمر الله والانتهاء إلى طاعته.
والخلاصة- اصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك.
وعن عائشة قالت: ظلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صائما ثم طوى، ثم ظلّ صائما ثم طوى، ثم ظل صائما قال يا عائشة: «إن الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد،

يا عائشة إن الله لم يرض من أولى العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض منى إلا أن يكلفنى ما كلفهم فقال: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» وإنى والله لأصبرنّ كما صبروا جهدى ولا قوة إلا بالله» أخرجه ابن أبى حاتم والدّيلمى.
ولما أمره بالصبر، وهو أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة وهى أخسّ الرذائل فقال:
(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي ولا تعجل بمسألة ربك العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة.
ونحو الآية قوله تعالى: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» وقوله: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً».
ثم أخبر بأن العذاب إذا نزل بالكافرين استقصروا مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال:
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي كأنهم حين يرون عذاب الله الذي أوعدهم بأنه نازل بهم- لم يلبثوا فى الدنيا إلا ساعة من نهار- لأن شدة ما ينزل بهم منه ينسيهم قدر ما مكثوا فى الدنيا من السنين والأعوام، فيظنونها ساعة من نهار.
ونحو الآية قوله: «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ» وقوله: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها».
(بلاغ) أي هذا القرآن بلاغ لهم، وكفاية إن فكروا واعتبروا، ودليله قوله تعالى: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» وقوله: «إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ».

ثم أوعد وأنذر فقال:
(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟) أي وما يهلك بالعذاب إلا الخارجون عن طاعة الله، المخالفون لأمره ونهيه إذ لا يعذب إلا من يستحق العذاب.
قال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك مشرك، وهذه الآية أقوى آية فى الرجاء ومن ثم قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، وهذا تطميع فى سعة فضل الله سبحانه وتعالى.
أخرج الطبراني فى الدعاء عن أنس أن النبي ﷺ كان يدعو:
«اللهم إنى أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لى ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرّجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين».
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(١) إقامة الأدلة على التوحيد والرد على عبدة الأصنام والأوثان.
(٢) المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة والإجابة عنها وبيان فسادها.
(٣) ذكر حال أهل الاستقامة الذين وحدوا الله وصدقوا أنبياءه، وبيان أن جزاءهم الجنة.
(٤) ذكر وصايا للمؤمنين من إكرام الوالدين وعمل ما يرضى الله.
(٥) بيان حال من انهمكوا فى الدنيا ولذاتها.
(٦) قصص عاد، وفيه بيان أن صرف النعم فى غير وجهها يورث الهلاك.
(٧) استماع الجن للرسول صلى الله عليه وسلّم وتبليغهم قومهم ما سمعوه.
(٨) عظة للنبى صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من أمته.
(٩) بيان أن القرآن فيه البلاغ والكفاية فى الإنذار.
(١٠) من عدل الله ورحمته ألا يعذب إلا من خرج من طاعته ولم يعمل بأمره ونهيه.