
وَالْمَعْنَى وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ دَرَجَاتٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ قَالُوا كَيْفَ يَجُوزُ ذِكْرُ لَفْظِ الدَّرَجَاتِ فِي أَهْلِ النَّارِ، وقد جاء في الأثر الجنة الدرجات، وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ زَيْدٌ: دَرَجُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَذْهَبُ علوا، ودرج أهل النار ينزلوا هُبُوطًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّرَجَاتِ الْمَرَاتِبُ الْمُتَزَايِدَةُ، إِلَّا أَنَّ زِيَادَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَزِيَادَاتِ أَهْلِ النَّارِ فِي الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيُوَفِّيَهُمْ وَقُرِئَ بِالنُّونِ وَهَذَا تَعْلِيلٌ مُعَلَّلُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَلَا يَظْلِمَهُمْ حُقُوقَهُمْ، قَدَّرَ جَزَاءَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ فَجَعَلَ الثَّوَابَ دَرَجَاتٍ وَالْعِقَابَ دَرَكَاتٍ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُوَصِّلُ حَقَّ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِ بَيَّنَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ أَوَّلًا، فَقَالَ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ قِيلَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَقِيلَ تُعْرَضُ عَلَيْهِمُ النَّارَ لِيَرَوْا أَهْوَالَهَا أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ أَذْهَبْتُمْ اسْتِفْهَامٌ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ، وَابْنُ عَامِرٍ اسْتِفْهَامٌ بِهَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدَّةٍ وَالْبَاقُونَ أَذْهَبْتُمْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا قُدِّرَ لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالرَّاحَاتِ فَقَدِ اسْتَوْفَيْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا وَأَخَذْتُمُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَظِّكُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَعَنْ عُمَرَ لَوْ شِئْتُ لَكُنْتُ أَطْيَبُكُمْ طَعَامًا وَأَحْسَنُكُمْ لِبَاسًا، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي،
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَهُمْ يُرَقِّعُونَ ثِيَابَهُمْ بِالْأَدَمِ مَا يَجِدُونَ لَهَا رِقَاعًا فَقَالَ: «أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ يَوْمَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَيُغْدَى عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ وَيُرَاحُ عَلَيْهِ بِأُخْرَى وَيُسْتَرُ بَيْتُهُ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ، قَالُوا نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ قَالَ بَلْ أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ؟»، رَوَاهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ الصَّالِحِينَ يُؤْثِرُونَ التَّقَشُّفَ وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَكْمَلَ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّنَعُّمِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَإِنَّمَا وَبَّخَ اللَّهُ الْكَافِرَ لِأَنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِالدُّنْيَا وَلَمْ يُؤَدِّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ بِطَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي بِإِيمَانِهِ شُكْرَ الْمُنْعِمِ فَلَا يُوَبَّخُ بِتَمَتُّعِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَافِ: ٣٢] نَعَمْ لَا يُنْكَرُ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنِ التَّنَعُّمِ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا اعْتَادَتِ التَّنَعُّمَ صَعُبَ عَلَيْهَا الِاحْتِرَازُ وَالِانْقِبَاضُ، وَحِينَئِذٍ فَرُبَّمَا حَمَلَهُ الْمَيْلُ إِلَى تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ مِمَّا يَجُرُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ وَيَقَعُ فِي الْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أَيِ الْهَوَانِ، وَقُرِئَ عَذَابَ الْهَوَانِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ فَعَلَّلَ تَعَالَى ذَلِكَ الْعَذَابَ بِأَمْرَيْنِ: (أَوَّلُهُمَا) : الِاسْتِكْبَارُ وَالتَّرَفُّعُ وَهُوَ ذَنْبُ الْقَلْبِ الثَّانِي: الْفِسْقُ وَهُوَ ذَنْبُ الْجَوَارِحِ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ أَحْوَالَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ وَقْعًا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ أَنَّهُمْ يَتَكَبَّرُونَ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَيَسْتَنْكِفُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَمَّا الْفِسْقُ فَهُوَ الْمَعَاصِي وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ عَذَابَهُمْ بِأَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الْكُفْرُ وَثَانِيهِمَا: الْفِسْقُ، وَهَذَا الْفِسْقُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِذَلِكَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ فِسْقَ الْكُفَّارِ يُوجِبُ الْعِقَابَ فِي حَقِّهِمْ، وَلَا مَعْنَى لِلْفِسْقِ إِلَّا تَرْكُ المأمورات وفعل المنهيات، والله أعلم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْرَدَ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ بِسَبَبِ/ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَاشْتِغَالِهِمْ بِطَلَبِهَا أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ قَوْمَ عَادٍ كَانُوا أَكْثَرَ أَمْوَالًا وَقُوَّةً وَجَاهًا مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ شُؤْمِ كُفْرِهِمْ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ هاهنا لِيَعْتَبِرَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، فَيَتْرُكُوا الِاغْتِرَارَ بِمَا وَجَدُوهُ مِنَ الدُّنْيَا وَيُقْبِلُوا عَلَى طَلَبِ الدِّينِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ تَقْبِيحَ طَرِيقَةٍ عِنْدَ قَوْمٍ كَانَ الطَّرِيقُ فِيهِ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ كَذَا وَكَذَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ أَيْ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ أَهْلَ مَكَّةَ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أَيْ حَذَّرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَقَوْلُهُ بِالْأَحْقافِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحِقْفُ الرَّمْلُ الْمُعْوَجُّ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُعْوَجِّ مَحْقُوفٌ وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْأَحْقَافُ وَاحِدُهَا حِقْفٌ وَهُوَ الْكَثِيبُ الْمُكَسَّرُ غَيْرُ الْعَظِيمِ وَفِيهِ اعْوِجَاجٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الأحقاف واد بين عمان ومهرة والنذر جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنَى الْمُنْذِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَنْذَرَهُمْ وَقَالَ لهم أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عليكم العذاب.
وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ بُعِثُوا قَبْلَهُ وَالَّذِينَ سَيُبْعَثُونَ بَعْدَهُ كُلُّهُمْ مُنْذِرُونَ نَحْوَ إِنْذَارِهِ.
ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا الْإِفْكُ الصَّرْفُ، يُقَالُ أَفَكَهُ عَنْ رَأْيِهِ أَيْ صَرَفَهُ، وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ لَتُزِيلَنَا بِضَرْبٍ مِنَ الْكَذِبِ عَنْ آلِهَتِنا وَعَنْ عِبَادَتِهَا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا مُعَاجَلَةُ الْعَذَابِ عَلَى الشِّرْكِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي وَعْدِكَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ هُودٌ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا صَلَحَ هَذَا الْكَلَامُ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا اسْتِعْجَالٌ مِنْهُمْ لِذَلِكَ الْعَذَابِ فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ لَا عِلْمَ عِنْدِي بِالْوَقْتِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ ذَلِكَ الْعَذَابُ، إِنَّمَا عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَهُوَ التَّحْذِيرُ عَنِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِوَقْتِهِ فَمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبْعَثُوا سَائِلِينَ عَنْ غَيْرِ مَا أُذِنَ لَهُمْ فِيهِ وَإِنَّمَا بُعِثُوا مُبَلِّغِينَ الثَّانِي:
أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّكُمْ بَقِيتُمْ مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَجَهْلِكُمْ فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ قُرُبَ الْوَقْتُ الَّذِي

يَنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ هَذَا الْجَهْلِ الْمُفْرِطِ والوقاحة التامة الثالث: لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حَيْثُ تُصِرُّونَ عَلَى طَلَبِ الْعَذَابِ وَهَبْ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ كَوْنِي صَادِقًا، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَيْضًا لَكُمْ كَوْنِي كَاذِبًا فَالْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَبِ الشَّدِيدِ لِهَذَا الْعَذَابِ جَهْلٌ عَظِيمٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ ذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي الضَّمِيرِ فِي رَأَوْهُ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ عارِضاً كَمَا قَالَ: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: ٤٥] وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَرْضَ لكونها معلومة فكذا هاهنا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى السَّحَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمَّا رَأَوُا السَّحَابَ عَارِضًا وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ/ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ لَا عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أَيْ فَلَمَّا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ بِهِ عَارِضًا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْعَارِضُ السَّحَابَةُ الَّتِي تُرَى فِي نَاحِيَةِ السَّمَاءِ ثُمَّ تَطْبِقُ، وَقَوْلُهُ مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَتْ عَادٌ قَدْ حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ أَيَّامًا فَسَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَحَابَةً سَوْدَاءَ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغِيثُ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ استبشروا وقالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا وَالْمَعْنَى مُمْطِرُ إِيَّانَا، قِيلَ كَانَ هُودٌ قَاعِدًا فِي قَوْمِهِ فَجَاءَ سَحَابٌ مُكْثِرٌ فَقَالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا فَقَالَ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ ثُمَّ بَيَّنَ مَاهِيَّتَهُ فَقَالَ: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ. ثُمَّ وَصَفَ تِلْكَ الرِّيحَ فَقَالَ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ تُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ بِأَمْرِ رَبِّها وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ تَأْثِيرَاتِ الْكَوَاكِبِ وَالْقِرَانَاتِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَدَثَ ابْتِدَاءً بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ تَعْذِيبِكُمْ فَأَصْبَحُوا يَعْنِي عَادًا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَحْمِلُ الْفُسْطَاطَ فَتَرْفَعُهَا فِي الْجَوِّ حَتَّى يُرَى كَأَنَّهَا جَرَادَةٌ،
وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ أَبْصَرَ الْعَذَابَ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ قَالَتْ رَأَيْتُ رِيحًا فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ،
وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَا عَرَفُوا بِهِ أَنَّهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ،
أَنَّهُمْ رَأَوْا مَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ مِنْ رِجَالِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ يَطِيرُ بِهِ الرِّيحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَغَلَّقُوا أَبْوَابَهُمْ فَعَلَّقَتِ الرِّيحُ الْأَبْوَابَ وَصَرَعَتْهُمْ، وَأَحَالَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَحْقَافَ، فَكَانُوا تَحْتَهَا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَهُمْ أَنِينٌ، ثُمَّ كَشَفَتِ الرِّيحُ عَنْهُمْ فَاحْتَمَلَتْهُمْ فَطَرَحَتْهُمْ فِي الْبَحْرِ،
وَرُوِيَ أَنَّ هُودًا لَمَّا أَحَسَّ بِالرِّيحِ خَطَّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَطًّا إِلَى جَنْبِ عَيْنٍ تَنْبُعُ فَكَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي تُصِيبُهُمْ رِيحًا لَيِّنَةً هَادِئَةً طَيِّبَةً، وَالرِّيحُ الَّتِي تُصِيبُ قَوْمَ عَادٍ تَرْفَعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَتُطَيِّرُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَتَضْرِبُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ،
وَأَثَرُ الْمُعْجِزَةِ إِنَّمَا ظَهَرَ فِي تِلْكَ الرِّيحِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَمَرَ اللَّهُ خَازِنَ الرِّيَاحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَى عَادٍ إِلَّا مِثْلَ مِقْدَارِ الْخَاتَمِ»
ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ أَهْلَكَهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِظْهَارُ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى الرِّيحَ فَزِعَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا أرسلت به».
المسألة الثانية: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ لَا يُرى بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا مَساكِنُهُمْ بِضَمِّ النُّونِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ مَعْنَاهُ لَا يُرَى شَيْءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ لَا تَرى عَلَى الْخِطَابِ أَيْ لَا تَرَى أَنْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَاصِمٍ لَا تُرَى بِالتَّاءِ مَساكِنُهُمْ بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَالتَّأْوِيلُ لَا تُرَى مِنْ بَقَايَا عَادٍ أَشْيَاءُ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَخْوِيفُ كَفَّارِ مَكَّةَ، فَإِنْ قِيلَ/ لِمَا قَالَ اللَّهُ